الحب حالة من الطوارئ الجبرية يقلب حياة الإنسان رأسا على عقب والمحب عليه أن يتفانى في الاخلاص ويقدم التنازلات لكي تسير المركبة ويحصل على أقصى قدر من السعادة . هذا هو ما حدث بالضبط فى حياة ليلى فوزى عندما أحبت الإذاعي اللامع جلال معوض. فتزوجته رغم اعتراضات الأهل وتنازلت عن قدر كبير من نجوميتها وشهرتها كممثلة فى سبيل إرضائه فهي كانت بحاجة لهذا الرجل القوى والذى تثق فى حبه لها. تقول ليلى فوزى : جلال معوض كان رجلاً شرقياً بكل ما تعنى الكلمة فرغم انه كان يعمل فى وسط الفنانين من خلال برنامجه الشهير أضواء المدينة وكان يبدو كرجل سبور مثقف متحرر لكنه بداخله كان يكمن الرجل الشرقي. فبعد زواجنا رفض بشكل قاطع اشتراكي فى حفلات أضواء المدينة حتى لا يقال انه يحضر زوجته لتعمل ولم أسافر إلى أي مكان. ورغم ذلك كان يدللني ويحبني جدا وفى منتهى الرومانسية معي. وترصد ليلى فوزى لحظات هامة فى حياتها مع جلال معوض وقتما جاءت نكسة 1967 وتقول : عندما وقعت النكسة كان إحساسي أن بلدي انهزمت وكنت متضايقة جدا ومكتئبة ككل المصريين وكنت اشعر بما أصاب جلال معوض من حزن شديد. واصابته حالة من الذهول والصمت التام. فلم يتكلم معي عن شيء. وفقد شهية الحياة. وكان نادرا ما يضحك فهو كان قريباً جدا من الثورة ويعرف أدق التفاصيل وعندما بدأت الحرب كانت تجيء له بيانات ليذيعها واكتشف بعدها أنها ليست مضبوطة. ورغم ذلك لم يتغير موقفه من جمال عبد الناصر فقد كان متأكدا أن جمال عبد الناصر خدع مثله فى هذه الحرب. ولذلك كان يعتقد أن كل شيء سوف يعاد إصلاحه. وبالتدريج بدأ يعاود نشاطه المعتاد لكن مع مسحة حزن فى كلامه وتصرفاته. وتصف ليلى فوزى رحيل جمال عبد الناصر بأنه كان الكارثة بعينها وتقول : عندما توفي عبد الناصر تأثرت لأنني كنت احبه كثيرا. لم اكتشف أن دموع جلال قريبة إلا عندما توفي جمال. وحقيقي كان يبكي كالأطفال والتسجيلات الخاصة بالجنازة موجودة للان وتكشف ذلك. وهو كان بطبيعته عاطفياً عندما كان يحب أحداً يحبه بمنتهى الإخلاص. ولان صوته قوي وشخصية واثقة كان حين يتحدث عن أحد يحبه أو يحزن عليه يظهر ذلك بصوته. قال لى بعد ذلك انه لم يبكي على أبيه عندما توفي مثلما بكى على عبد الناصر. وكان يردد أن جمال لم يكن سيئاً، كان كل هدفه أن يسعد الشعب المصري ويحقق له العزة. وكانت هناك أخطاء فى عهده لكنها كانت ممن هم حوله والذين لم يكونوا مثله فى مشاعره وأهدافه وحبهم للبلد. وتكشف ليلى فوزى عن أن جلال معوض كان عاشقاً لميكرفون الإذاعة وتقول : عندما أسس التليفزيون المصري عرض الجميع عليه أن يظهر من خلال شاشته ليقدم برامج ويذيعها ولكنه رفض بشدة وقال ليس لي مكان سوى الإذاعة. ولم يكن يظهر بالتليفزيون سوى كضيف وأتذكر حلقة سجلت معه فى برنامج بالتليفزيون بعد وفاة عبد الحليم حافظ فوجدت دموعه تسقط لأن عبد الحليم كان من اقرب أصدقائه ويحبه كثيراً. وعقب وفاة عبد الناصر انقلبت حياة جلال معوض رأسا على عقب ومعه حياة زوجتة ليلى فوزى حيث وقعت الحادثة الشهيرة بينه والرئيس السادات ترك على اثرها جلال معوض الإذاعة وأحيل على المعاش ثم سافر إلى ليبيا وتقول ليلى فوزى : بعد وفاة جمال عبد الناصر كان حزيناً جدا ويشعر بانهيار تام والكلام الذى تردد ليس صحيحا والخاص بأنه رفض أن يقدم الرئيس السادات كما كان يقدم جمال عبد الناصر والجميع فهمه خطأ لأنهم لم يستوعبوا حزنه على جمال عبد الناصر وهو لم يكن قادرا على الذهاب لتقديم السادات لأنه كان سيقدمه فى المكان نفسه الذى كان يقدم فيه عبد الناصر، فعندما عملوا مبايعة للسادات فى سراي عابدين. كل المذيعين ذهبوا للمبايعة وهو ذهب معهم. والسادات سلم عليهم واحداً واحداً حتى وصل إلى جلال معوض فقال له: شد حيلك يا جلال، والسادات كان قريباً من جلال ويفهم مشاعره جيدا نحو عبد الناصر كما انهما حبسا معا فى منزله لفترة بعيدا عن الإذاعة واخذ المذيعون الذين تتلمذوا على يديه وساعدهم يحيكون الشائعات ضده وهو ما اثر فيه وكان من هذه الشائعات أن جلال قال أمامهم: «السادات ده إيه اللي أقدمه بعد الزعيم جمال» وكان الكلام يصل إلى جلال فيصمت ولا يعلق لأنه كان يعلم أن السادات بحكم معرفته به لن يصدق ما يشاع. وبعد فترة هدأت نفس جلال معوض وعاد للإذاعة فى خطاب للسادات. وجلس أمام الميكروفون ليبدأ التقديم وبعد أن بدأ البث على الهواء مباشرة وجد المهندس يشير له أن الميكروفون الذى أمامه لا يعمل واسقط فى يديه فثار واحتج لأنه لم يجد ميكروفوناً ثانياً يعمل إلا الذى أمام السادات. والسادات شاهد ما يحدث وهو كان يشاهد كيف يقدم جلال معوض عبد الناصر ويطمئن قبلها على كل شيء فاضطر السادات لان يصدق كل ما يشاع عن جلال معوض فأمر على الفور بإحالة جلال معوض على المعاش. وعاد جلال يومها للمنزل حزيناً وغير قادر على الكلام وبعدها سألت جلال : المهندس الذى أشار لك أن الميكروفون لا يعمل هل كتب هذا فى تقرير؟ قال لى: كتب تقريراً بذلك لكن لم يحقق أحد فى الموضوع وكل الناس المحيطين بنا طلبوا من جلال أن يبادر بمقابلة الرئيس السادات ويشرح له ما حدث وما جاء بتقرير المهندس. فرفض وقال : أنا لم افعل شيئاً خطأ أو ارتكب جريمة لكى اطلب هذا. كما رفض آن يتوسط أحد بينه وبين السادات. فكانت دماغه ناشفة فى هذا الموضوع ويراه متصلا بالكرامة. لدرجة أنني طلبت منه الإذن لي بأن اكلم جيهان السادات واشرح لها ما حدث لتتدخل هى لدى الرئيس فرفض وهددني بأني إذا فعلت هذا ستكون قطيعة بينه وبيني لا رجعة فيها. وترسم ليلى فوزى صورة عامة لحياة جلال معوض بعد أن خرج من الإذاعة قائلة: لم يرتكب جلال خطيئة في عمله كي يتركه بهذا الشكل ويمكن أن تتخيل كيف كان حاله خاصة أنه ترك عملاً يحبه ويعشقه ويحرمونه من العودة اليه. حياته دمرت تماما. وطلبته الكثير من الإذاعات العربية للسفر خارج مصر والعمل لديها بأي مبلغ يحدده هو لكنه رفض أيضا هذه الفكرة. وأثناء إحدى زيارات الرئيس الليبي معمر القذافى لمصر وكان يعرف جلال معوض ويحبه جدا بسبب علاقته بجمال عبد الناصر وكان دائما ما يلتقى به مع جمال فى ليبيا أو مصر. والذى تأثر جدا بما حدث مع جلال انتهز هذه الزيارة أثناء لقائه بالسادات وطلب من الرئيس المصري أن يأخذ معه جلال معوض إلى ليبيا فأمر السادات بأن يسمح لجلال بالسفر إلى ليبيا مع القذافى. ووافق جلال وسافرت معه للإقامة فى ليبيا. واختلفت حياة الزوجين ليلى فوزى وجلال معوض فى ليبيا وتقول عنها ليلى فوزى : لم اكن اعرف أي مكان فى ليبيا أو أي شيء عنها. وعندما وصلنا هناك أعطوا لنا فيللا فى مكان يسكن فيه الدبلوماسيون الأجانب لنقيم بها. وهى كانت فيللا جميلة تحيطها حديقة وكنت أقضي بها معظم وقتي. وكنت أحضرت معي من القاهرة طباخاً وشغالين. وهؤلاء لم يستطيعوا أن يقيموا معنا بليبيا اكثر من أربعة شهور عادوا بعدها لمصر وتركونا بمفردنا. لأنهم شعروا بغربة شديدة في هذا المكان. فاضطررت للقيام بكل أعمال المنزل من الطبخ والغسيل حتى التنظيف إضافة إلى الاهتمام بالحديقة. وكنت أضيع وقتي بكل هذه الأعمال لانه لم تكن لدى علاقات بأحد فى ليبيا ولم نكن نعرف أياً من العائلات. وكل ما كنا نراه هو السفارة والقنصلية المصرية وكان المصريون يحضرون لزيارتنا فى منزلنا. وظللنا على هذه الحال عامين. لم اشعر خلالها بضيق أو اعتراض على هذه الحياة لأن الفكرة التي كانت تحكمني أن هذا هو واجبى كزوجة وأنني يجب أن اقف إلى جوار زوجي الذى بدأ فى العمل بالإذاعة الليبية ولم يكن حماسه فى العمل مثلما كان فى القاهرة. وبعد هذين العامين شعر جلال بتوتر العلاقات بين القاهرة وليبيا فقرر العودة إلى مصر حتى لا يحسب على النظام الليبي وقال بالحرف. أنا رغم خلافي مع السادات إلا أنني مصري قبل كل شيء. وعندما رجعنا الى القاهرة لم نتعرض لأي مضايقات ولم يسجن جلال كما ادعى البعض وإنما تعرضنا للمراقبة لفترة وعندما تأكدوا أن جلال لا يقوم بأي نشاط ولا يتحدث عن خلافه مع السادات تركونا فى حالنا. وسارت الحياة فى مجرياتها عند ليلى فوزى وجلال معوض حتى فجعت فيه بعد 38 عاما من حياة زوجية درامية حيث أصيب جلال معوض فى أعوامه الأربعة الأخيرة بمرض الزهايمر اللعين وظلت إلى جواره إلى أن توفاه الله. حلقات يكتبها: محمد سليمان