بيان الجمعة: يعد برنامج (حوار في الشريعة) واحداً من أهم البرامج التي يعرضها التلفزيون العراقي - إن لم يكن أكثرها أهمية على الإطلاق. فقد استطاع أن يكسب جمهوراً استثنائياً من المشاهدين سواء في عددهم أم في تنوع واختلاف أجناسهم وثقافتهم وأعمارهم. واللافت للنظر هو أن طبيعة المادة التي يعرضها البرنامج ليست من المواد (الترفيهية المنوعة ) التي تراهن القنوات التلفازية في العالم - سلفاً - على نجاحها، بل إنها ذات توجه تخصصي ديني تقوم على صيغة السؤال والجواب، والتعامل المباشر مع استفسارات المشاهدين، وهي صيغة لا تمتلك معها كاميرا التصوير وفن الاخراج أية فرصة للتلاعب والتحليق والإبداع والشد ... فأين يكمن سر النجاح ؟ ولماذا استطاع (حوار في الشريعة ) أن يتبوأ مثل هذه المكانة في حين فشلت عشرات البرامج الدينية المتخصصة المماثلة أن تشد اليها الحضور ؟ ركيزة النجاح الرئيسة بلا أدنى شك تتمثل في شخصية الضيف الثابت على البرنامج، وهو المفكر الإسلامي عبد الحميد العبيدي أستاذ الفقه المقارن في جامعة صدام للعلوم الاسلامية، لما يتمتع به من مواصفات يندر اجتماعها أو توفرها في شخص واحد، وفي المقدمة منها ذلك التزاوج بين حافظة قوية لكامل النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والأحكام الفقهية للمذاهب الاسلامية وأقوال العلماء والفقهاء والمجتهدين، وبين قدرة عالية على استحضار النصوص المناسبة والآراء الفقيهة على كثرتها وتنوعها وكأنها مطبوعة في ذاكرته أو بتعبير أدق ماثلة أمام عينيه. والرجل حين يفصل في الأقوال والآراء يعمد إلى شرحها وتوضيحها، ويذكر ما جرى عليه الإجماع وما تم الانفراد به من غير أن يخطئ أحداً أو ينحاز إلى أحد، بل إنه لا يجد ضيراً في بعض الأحيان أن يصرح للمشاهد السائل باختيار ما يود اختياره من أقوال المذاهب، وبذلك يحرره شرعاً من نطاق الالتزام المذهبي الضيق دافعاً اياه إلى مجال الإسلام الرحيب مادامت تلك الاقوال والآراء جميعها تنهل من مصدر واحد هو الشريعة السمحاء. على أن مواصفات الأستاذ العبيدي لا تقف عند هذه الحدود المتعلقة بمجال تخصصه الديني للفقه المقارن، وإنما تتعداها إلى ما يصح أن نطلق عليه (الموسوعية في الثقافة ) فالرجل بالمقابل يمتلك حافظة قوية وذهنية حادة قادرة على استذكار الاستشهادات المناسبة سواء تعلق الأمر بالحكم الديني والتفسير القرآني، أو تعلق الأمر بتواريخ السيرة الذاتية لمئات الشخصيات الإسلامية وغير الإسلامية وعموم التفاصيل المرتبطة بأحداث وحوادث التاريخ السابق للإسلام والتاريخ العربي الإسلامي، مع وقوف دقيق على علوم العربية لغة ونحواً وبلاغة وصرفاً وتطوراً ومقارنة ونطقاً وإملاء، إلى جانب خزين من محفوظاته الشعرية التي يغبط عليها. عبر هذا الحوار، نحاول استكمال الصورة الموسوعية لثقافة العبيدي واستقراء بعض آرائه في المسائل المعاصرة التي تشغل بال العرب والمسلمين. ـ في كثير من ردودك نستمع إلى إجابات مسهبة في مجالات بعيدة عن تخصصك كالطب والفلك والهندسة والجغرافية ... فكيف تسنّى لك الإلمام بهذه المعارف؟ ـ ابتداء لا أضع نفسي في خانة العلماء لكي يكون بمقدوري القول: إن علماء الدين الإسلامي وفقهاء الأمة كما تدلّنا آثارهم ومؤلفاتهم كانوا خير من استوعب الحقيقة الثابتة بأن الدين الاسلامي هو دين حياة، أي أنه شمولي لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا ويتعامل معها على وفق المنظور المستمد من النصوص والأحكام، ولهذا سعى العلماء المسلمون في كل المراحل إلى الإلمام بهذا القدر أو ذاك بنتاج عصرهم العلمي، وبغير هذا الإلمام والمواكبة العصرية بتحول الإسلام إلى مجرد نصوص ونظريات، وليس الإسلام كذلك حتما. وأنا بحكم تخصصي واشتغالي في ميدان العلوم الدينية أتعرض كما يتعرض من هم أمثالي إلى الكثير من الاسئلة التي يطرحها العصر، خاصة وأنه حافل بالكثير من المستجدات كأطفال الأنابيب مثلاً أو الاستنساخ البشري أو المعرفة المبكرة بجنس الجنسين أو الثورة الجينية.. الخ، ولإعطاء حكم شرعي مدروس وصحيح لا يمكن الرفض أو القبول بأية قضية علمية من غير الوقوف على كامل دقائقها ومراحلها، ومن هنا لا يجوز منطقاً ولا شرعاً لمن يكون في موقع المسئولية الدينية وإبداء الرأي، أن يعزل نفسه خارج حركة الحياة والمسار العام للتاريخ الاسلامي يؤكد بأن علماء الامة الذين استحقوا هذا اللقب كانوا حريصين على توظيف الشريعة لمنطق المرحلة من غير المساس بالثوابت العامة لشرع الله والثوابت الأخلاقية التي جاء بها الدين الحنيف. ـ يتعرض الدين الاسلامي حالياً إلى هجمة منظمة وشرسة ما هي جذورها ؟ وما هو الهدف منها في رأيكم؟ ـ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم أن استطاعوا منذ ظهر الإنسان على وجه الأرض وهو يعيش صراعاً بين الحق والباطل وقصة ولدي آدم عليه السلام وقتل أحدهما للآخر هي أول صراع شهدته الأرض وسيستمر إلى يوم القيامة لكي يميز سبحانه وتعالى بين الطيب والخبيث مؤكداً على غلبة الحق دوما لأغلبن أنا ورسلي والحق قوي وإن كان أهله قلة لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المصير«ويقول جل من قائل: «فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». وبما إن الإسلام يمثل كفة الحق والصفاء والاستقامة فأن كفة الأشرار والطغاة والفراعنة تكن له عداؤها دائما، وليس هذا بجديد فالتاريخ يحتفظ بمائة شهادة وشهادة 000 ولكن القرن العشرين لمس بالدلائل المعلنه تجبّر اليهود وطغيانهم وهيمنتهم على سياسات بعض الدول الكبيرة وتعبيرها على هواهم. كان عالمنا كما هو معروف منقسماً إلى قوتين، معسكر شرقي ومعسكر غربي، وسباق التسلح بينهما قائم على قدم وساق للسيطرة على الكرة الأرضية، ولكن بعد سقوط أو انكفاء المعسكر الشيوعي وتفرد المعسكر الرأسمالي، تغير وجه الصراع، وبحثت القوة المتفردة الجديدة عن المعسكر الذي يأبى الانصياع لها فوجدته متمثلاً في الإسلام - من حيث هو جوهر وتاريخ وحضارة ودين وواقع ايماني حي وقوة فكرية ونفسية وعاطفية يصعب التغلب عليها - ولهذا كشف المعسكر الغربي المُقاد من اليهود هجمته على الإسلام والمسلمين، ديناً وحضارة وانساناً، عبر أسلوبين أولهما: السلاح العلمي والاعلامي والعسكري المباشر، وثانيهما: شراء بعض الذمم القيادية الضعيفة التي تعمل على خنق الارادة الشعبية المسلمة. ـ في غير مناسبة، أعلنتم بأن اليهودية الحالية ليست ديناً، كيف توجهون هذا الرأي؟ ـ اليهود ليسوا على دين سماوي اليوم كما يدعون، فهم لا يؤمنون بالله تعالى، وقد أخبرنا الكتاب الكريم عن زعمهم بأن الله فقير وهم الأغنياء وذلك عندما نزل قوله تعالى «من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً » قالوا نقرضه بالربا، وقال تعالى لاعناً إياهم «وقالوا يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء» ومن يصدر عنه مثل هذا القول فهو كافر، كما أنهم قد آذوا رسل الله وحرفوا الكتب السماوية. ـ هل يمكن تسليط ضوء أكبر على هذه المسألة ؟ ـ قال عزّ وجل «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا» وحرفوا كلام الله وحذفوا منه وزادوا عليه فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون واليهود هم المعنيون بهذا الويل وبكتابة الكتاب بأيديهم ثم الافتراء على الله، وقصتهم مع النبي موسى عليه السلام، كما يوردها القرآن الكريم تكشف عن طبيعتهم الأخلاقية «وقولوا حطةٌ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم» ذلك لأنهم أبدلوا قول موسى من «حطة» أي يا ربنا حطّ عنا خطايانا وقالوا «حنطة» استهزاء بنبيهم .. بل إن أيديهم ملطخة بقتل الأنبياء «وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم أنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله» وتاريخهم في هذا المجال يحدثنا بأنهم قتلوا في يوم واحد مئتي نبي من طلوع الشمس حتى زوالها، وقتلوا ألفاً ومئتين من حواريي أولئك الأنبياء من زوال الشمس إلى غروبها، ومحاولتهم قتل النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» حيث قدّمت له إحدى اليهوديات وبمؤامرة دنيئة طعاماً مسموماً .. من كل هذا نخلص إلى أنهم اليوم ليسوا على دين، لا على اليهودية الحقة ولا النصرانية ولا الإسلام. ـ يُلاحَظ في إجاباتك على استفسارات المشاهدين انك تعرض موقف المذاهب الإسلامية من غير أن تعلن انحيازك لموقف منها تاركاً للسائل حرية الاختيار .... لماذا؟ ـ المذاهب الإسلامية ليست خمسة بل (113)مذهباً، ولكل منها مدرسة وأصول وفروع، وليس هناك مذهب ملزم للأمة، إنما يحق للمسلم أن يختار المذهب الذي يريد على وفق قناعته، بل من حق المسلم في الشرع المباح أن يكون على مذهب ويختار بعض الجزئيات والأحكام من مذاهب أخرى، وهكذا تصبح المذاهب تسهيلاً للقضايا الشرعية وأبوابا متعددة لتيسير الأمور أمام المسلم، وليس كما يتعامل معها البعض على أنها مدارس متقاطعة متنافرة منكفئة على نفسها. ـ هل هذا اجتهاد شخصي ؟ ـ الاجتهاد شرف كبير أين أنا منه، وما أشرت اليه يمثل واقع الحال الذي كانت عليه المذاهب، إذْ ما كان أصحابها يدعون أو يجبرون الناس على اتباعهم أبدأً ... لا بل كانوا يستمعون لآراء تلاميذهم فلا ينكرون على أحد رأيا إن كانت معه الحجة، و لهذا فلا يمكن أن يكون مذهب من المذاهب أفضل من غيره. ـ أنت إذن تلغي مفهوم الأرجحية ؟ ـ بالتأكيد ... وليس بمقدور مسلم واع متفتح أن يتحدث عن أرجحية مذهب بالكامل على سواه، وعليه لا بد من الإيضاح الثاني: وهو أن الأرجحية تكون في الجزئيات فقط، ففي الموقف أو الحكم الفلاني يمكن ترجيح المذهب «س » وفي حكم آخر يمكن ترجيح المذهب «ص » وهكذا، ومع ذلك فإن ترجيح هذا الحكم الجزئي أو ذاك هو ترجيح نسبي، وخير ما يمكن العمل به هو الانحياز إلى الحكم المناسب بصرف النظر عن المذهب. ـ إنها دعوة إلى الانتقائية؟ ـ هي ليست دعوة، بل هو إقرار واقع ديني شرعي معمول به، فما دام المصدر الذي تنبثق منه المذاهب واحداً، فما الذي يمنعنا أن نختار ما ييسر علينا أمور ديننا ودنيانا، ثم إذا كان أصحاب المذاهب أنفسهم وطلابهم ومريدوهم وتابعوهم يُقرّون هذا المبدأ الحر في الاختيار فلماذا لا نكون نحن كذلك ؟