بعدما درس الطب وتخرج بشهادة طبيب اختار عثمان بالي أن يفعل شيئا آخر لم يفعله رجل قبله في المجتمع الذي خرج منه.. قرر بكل بساطة أن يحمل العود ويتجه للغناء ويغامر بمكانته في مجتمع يخفي رجاله وجوههم والغناء فيه حكر على النساء®®. عثمان بالي هذا هو واحد من أكبر مطربي الجزائر حاليا، لكنه ليس ككل المطربين. ولكي نتطرق الى حياته لابد من الحديث أولا عن الوسط الذي نشأ فيه ثم لفظه بسبب الغناء. ينتمي الدكتور المطرب عثمان بالي لقبيلة التوارق، وهم سكان أقصى الجنوب الجزائري، أصلهم بربر، مازالوا يتحدثون اللغة البربرية القديمة، ويحفظون طريقة الكتابة القديمة المعروفة بإسم «التيفيناغ» يعرف عنهم أنهم مجتمع طبقي، منظم بطريقة تراتبية، يأتي على رأس هذا التنظيم زعيم يسمى «الأمين أوكال»، ويعرف عنهم كذلك أنهم ينقسمون إلى عدة طبقات، فهناك «الأهقار» وهم طبقة الأسياد المحاربين، وهناك «الإمراد» الذين يدفعون فدية سنوية للأمين أوكال تدعى «تيوزي»، ويطلق عليهم عادة اسم «كال أولي»، ويعني باللغة المحلية «مربي الماعز»، وانضم إلى هاتين الطبقتين في فترات مختلفة سكان مناطق أخرى بعضهم جاء من مدينة التوات، يعرف عنهم تدينهم، فهم مرابطون جاءوا إلى الهقار بدعوة من الأمين أوكال عند نهاية القرن التاسع عشر لخدمة أراضي الأهقار. وفي أسفل السلم الإجتماعي هناك العبيد، أو «إكلان» حسب تعبير أهل المنطقة. ومن أهم العائلات الحاكمة التي سادت في المنطقة هناك عائلة «إمنان» التي قدمت من منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب «الصحراء الغربية»، معروفة بإنحدارها من عائلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حكمت المنطقة إلى غاية سنة 1660 حينما أغتيل الأمين أوكال غوما من طرف أحد أعيان قبيلة أورارن،فوقع الإنقسام بين القبيلتين الكبيرتين للتوارق، وهما الأهقار والأجر. وبسبب الانقسامات السياسية ظهرت قبيلة أخرى في منتصف القرن الثامن عشر، في عهد حكم الأمين أوكال سيدي محمد الصغير الذي تعرض للضغط من قبل الجماعات الأهقارية المناهضة له، مما أدى إلى إبعاده من الحكم، فانقسمت المنطقة إلى ثلاث قبائل كبيرة وبعد الحروب القبلية التي شهدتها المنطقة عند نهاية القرن التاسع عشر، اختفت إحدى هذه القبائل، وهي قبيلة الأجر، ولم يستتب السلم في المنطقة إلا بعد إنتهاء حرب أهلية أخرى وقعت سنة 1902، انهزم خلالها التوارق، وطلبوا الهدنة سنة 1904 بمدينة عين صالحوهي مدينة بأقصى الجنوب الجزائري من قبل زعيمهم موسى أمستان. وتروي الأسطورة أن أصل سكان المنطقة يعود إلى الملكة تين هينان الجدة الأسطورية القادمة من تافيلا لرفقة أختها تاكاما، ويفتخر سكان المنطقة بانحدارهم من تين هينان، مما يفسر المكانة المرموقة التي تحظى بها المرأة في المجتمع الترفي، فهي التي تؤدي معظم الوظائف في المجتمع وهي التي تحكم. ويكاد يكون المطرب عثمان بالي المنحدر من أعرق قبائل التوارق، الفنان الجزائري الوحيد الذي ينافس الشاب خالد والشاب مامي في العالمية، حفلاته امتدت الى مختلف القارات، فقد غنى في فرنسا و بلجيكا و هولندا والولايات المتحدة وكندا والصين واليابان و مصر ولبنان وعشرات من البلدان الأخرى. فهو لم يترك مكانا إلا وقدم فيه غناءه الترقي المميز الذي لايزال يعتمد على الآلات الموسيقية التقليدية، اكتشف بالصدفة أن أشرطته متواجدة حتى في إسرائيل. يعترف عثمان بالي بأن البداية لم تكن سهلة، والطريق كانت مفروشة بالأشواك والموانع لأن التوارق اعتبروه وصمة عار، فرموه بالحجارة،ذلك أن الغناء في المجتمع الترقي تؤديه المرأة وليس الرجل، قال المطرب الطبيب عثمان بالي: طفولتي لا أذكر منها إلا سحر أنغام التوارق الجميلة، فوالدتي شاعرة، ومطربة مشهورة في جانت مدينة جنوبية في الجزائر تستقطب السياح الأجانب بكثرة، وقد تعلمت منها الغناء وأنا جنين في رحمها، أما والدي فهو رجل فقيه في الدين، وعنه حفظت كثيرا من الآيات و السور القرآنية، وجدي الشيخ عمود بطل المقاومة التى امتدت من جانت الى النيجر، وليبيا، وهذا بالمدلول الترقي يعني بأني ابن عائلة شريفة، ومن عادات و تقاليد التوارق المرأة هي التي تغني، أما الرجل إذا غنى فهو يلحق العار بأبناء عشيرت، ويضيف عثمان: ربما لهذه الأسباب توجهت عند حصولي على شهادة البكالوريا عام 1975 لدراسة الطب، لكن حبي للغناء ظل يطاردني، وأدركت بأن البداية لن تكون سهلة، لكن وبطبعي العنيد فقد بدأت الغناء، وأنا أدرك بأن رد فعل التوارق معي سيكون عنيفا، وهذا ما حدث بالفعل، حيث قذفوني بالحجارة، وأنا أغني لهم، وأحاول أن أزرع الفرحة في نفوسهم، لكن وقوف عائلتي بجانبي وتشجيعهم لي على تحقيق أحلامي، وطموحاتي جعلني أصمد، والحمد لله لأن اسم بالي اليوم هو مصدر إعتزاز وفخر للتوارق اذ يكفيهم أني أستطعت أن أوصل أغنيتهم الى العالمية، ويواصل عثمان كلامه قائلا: أستطيع أن أقول الآن بأني حققت جزءا كبيرا من طموحاتي، فبعد حوالي 20 سنة في ميدان الغناء المحترف سجلت 193 أغنية، وزرت عشرات من البلدان الأجنبية، آخرها فنزويلا التي وجدت تجاوبا كبيرا مع جمهورها المعروف بتعصبه الشديد للنغمة الأميركية اللاتينية، فالأجانب تشدهم طريقة تقديم أغنياتي مع الفرقة المتكونة من 12 عنصرا، بالإضافة الى خمسة مرددين، وعازفين على الإيقاع من الرجال، وست نساء بمن فيهم والدتي، يعني أن فرقتنا مختلطة، ولمن لم يتمكن من مشاهدة الفرقة على الخشبة أقول بأنها تقدم بلباس مميز الأغاني بطريقة خاصة تعتمد على الطبلة، والعود، وقد حاولت في البداية أن أستعمل الغيثارة لكنني سرعان ما أدركت بأنها تفقد اللون ميزته و خصوصيته، لدلك التفت الى العود الذي يعطي للسامع شعورا بالأنس والدفء الصحراوي، والعربي عامة وعلى ذكر الغناء العربي يقول عثمان بالي: رغم أني من المولوعين بالأغنية الشرقية إلا أني لم أؤد في حياتي إلا الغناء الترقي الذي أتميز به، والذي وصلت من خلاله الى العالمية، وقد سجلت مؤخرا أغنية بالفرنسية أتغزل فيها بجمال الصحراء، وذلك بالإيقاعات الترقية التي أعتبرها أحلى موسيقى في العالم، بدليل انتشارها الواسع في كل مكان. ومؤخرا التقيت بمضيفة طيران أعطتني قرصا مظغوطا جديدا طرح في أوروبا، وسألت المضيفة الفرنسية في أي بلد اقتنت القرص فأجابتني بأنها تحصلت عليه من إسرائيل، وأنا أتذكر عندما بدأت مسيرتي قمت بتسجيل شريط في مدينة عزازقة بالقبائل، وتولت شركة كاديك توزيعه، لكن هذه الشركة تتعامل مع المنتوج الفني، والأشرطة كما تتعامل مع علب الطماطم، حيث نزل الشريط بدون دعاية، ولم يتم بموازاة ذلك تنظيم أية حفلات تذكر لكن مع هذا تغير الوضع تماما، وسأطرح قريبا لجمهوري الجزائري قرصا مظغوطا أتمنى أن يعجبهم.