لطالما انشغلت السينما الأوروبية بقصص تعبر عن دواخل الإنسان، وتجلياته النفسية، وعلاقته بالخارج، الآخر، سواء أكان العائلة أو الشريك أو المجتمع الأكبر. وعلى عكس قصص الـ«غراند» (أي القصص المبهرة) التي هي تخصص ناجح لسينما هوليود، فإن أفلام فرنسا وايطاليا وألمانيا، تتخذ ذلك الطابع الـ«مينيمالي» ( المبسط الذي يستنبط قوته من تلك البساطة). وتغلبت على الافلام الاوروبية في مهرجان برلين قضايا اجتماعية ولأنها أفلام غير تجارية، كما ان نجومها يكادون يكونون مجهولين بالنسبة إلى المشاهد العربي، فإن رؤية هذه النوعية من الأفلام تكاد تكون مستعصية، إلا في وقت المهرجانات، وقد اصبحت ذات حضور كثيف على الساحة العربية، لحسن الحظ، أو المهرجانات العالمية، مثل «برلين السينمائي» المشغول دوما بتنويع اطلالاته على مختلف الإنتاج السينمائي من دول أوروبية لها تاريخ عريق مع السينما، أو متقطع، أو مستجد، كما هي بعض دول شرق أوروبا.

وتسيطر هذا العام على المهرجان موجة من الأفلام التي تناقش مواضيع الفرد الأوروبي ومشاكله الذاتية والنفسية في مجتمع تزيد فيه العزلة بشكل بارز( نسبة هائلة من الألمان يستعيضون عن إنجاب الأطفال بتربية الحيوانات الأليفة ونسبة كبيرة من الفرنسيين يعيشون في دار المسنين معزولين بعد سن الستين)، في ظل حياة يومياتها مرتبة ومحسوبة، حد الضجر أحيانا. من جانب آخر، تستمر فئة أخرى من الأفلام في نقاش ظواهر برزت في التاريخ الأوروبي المعاصر، وكانت على النقيض من تلك الرتابة، تسبح في فضاءات ثورية وبوهيمية وراديكالية. لكن أفلام ‬2011، حين تستعيد ذلك اليوم، فإنما لا لتذكر به احتفاء، بل لكي تشرحه وتنتقده وربما تحذر منه.

في هذه الفئة، بوسعنا أن نعنون على أفلام بعدد أصابع اليد، تدور، مجددا، ودائما كما على مدى النصف قرن الماضي، حول معضلة النازية وشرها، بتوليفات ومقاربات متجددة لا تخلو من الابتكار، بهدف نشر مزيد من الوعي بأجيال جديدة، وتغذية، ربما، عقدة الذنب التي لا تنضب! لكن سياقا آخرا قد يكون مفيدا لاستعراض بعض هذه الأفلام. ما يهمنا هنا تلك الفئة الأولى من أفلام الفرد الذاتية، وقد استوقفنا منها فيلمان أحدهما نمساوي بعنوان:» من دون اب» The Fatherle وآخر ألماني هو «وحدها السماء فوقنا» ber uns das All

أبناء عائلة الـ«هيبز»

يعود هذا الفيلم إلى موضوعة نوقشت قبل ذلك في أعمال عدة، لكنه يقدمها بمقاربة متجددة. انها حياة الـ«هيبز» البوهيمية في نهاية سيتينيات القرن الماضي، والتي كانت فكرة «العائلة المشتركة» أو العيش في «جماعة»، والتكاثر من دون أن يكون لحسابات النسب والدم أي وازع، تشكل إحدى مظاهرها. بعد أكثر من عقدين على تشتت «العائلة»، يعود الأخوة (أو هكذا مفترض أن يكونوا) إلى بيتهم النائي في قرية صغيرة في الريف النمساوي، من أجل التواجد في مراسم دفن «الأب». وفي لعبة تقليدية، سبق أن شاهدناها في أفلام آخرها «كذبات صغيرة بيضاء» لـغويلوم كاني، وقبلها فيلم اوسكار روهلير «اليمانتري بارتيكلز»، تتكشف الحقائق شيئا فشيئا، من خلال نقاشات تصب في كشف العلاقة بين مفاهيم الأسرة ومفاهيم الحرية. الأبناء، ليسوا كلهم من اب واحد، ويتضح لنا أيضا انهم ليسوا جميعا من أم واحدة، ما يؤدي إلى خلخلة الكثير من المفاهيم و«المثل»، ان جاز التعبير، التي اعتقدوا، صغارا، انهم تربوا عليها في ذلك البيت الذي اتسع ذات يوم لعشرين شخصا! لا تشيطن المخرجة ماري كروتزر صورة الهيبي ومفاهيمه المثالية، لكنها لا تتوانى عن كشف ضعفها في امكنة كثيرة، بل انانيتها وعنصريتها، إذ ان الأب الذي يتوجب عليه ان يكون حامي «المجموعة» سرعان ما يختار اي أطفال يريد ان يبقوا إلى جانبه وأي طفلة ستقصى بعيدا لمدة عشرين عاما ولا يرد على رسائلها لتعود إلى الدفن حاملة حقدها وأسئلتها ومشاكلها النفسية. يحرض الفيلم على مزيد من التفكير في مفاهيم الأسرة الأوروبية اليوم، وعلاقات أفرادها، بل يكاد المشاهد يخرج من مشاهدته بدفق دافئ من الاحتياج إلى أسرته، في مواجهة الخوف والحذر المبثوث في الفيلم.

زوجي الذي لا اعرفه

أما فيلم الألماني جون شامبورغ فلا يخلو أيضا من الاسرار. يغوص «وحدها السماء فوقنا» في عوالم ملغزة ويترك الكثير من الأسئلة من دون أن يجيب عنها بشكل واضح. تطالعنا قصة مارتا التي تعيش حياة هانئة مع زوجها بول، الذي يتحضر للانتهاء من رسالة الدكتوراه الجامعية (أو هكذا كانت تظن على الأقل)، قبل ان يقرر الشريكان ترك برلين، «المدينة ذات السماء الرمادية»، والهجرة إلى «الجنوب المشرق» في مرسيليا الفرنسية. يسبق بول مارتا، وتقرر الالتحاق به، لكن خبر انتحاره في مرآب سيارات في مرسيليا يصلها بعد أيام قليلة، لتبدأ الحكاية، وتكتشف أنها عاشت سنين من حياتها مع شريك يبدو أنها تجهل عنه كل شيء. في لقطة معبرة أدتها ببراعة الممثلة الألمانية ساندرا هولير، تقول، وقد فقدت بوصلة الرشد خاصتها: «لا أعرف من هو، ماذا يحصل، هل بوسع اي كان أن يخبرني. هذا الرجل كنت كل يوم القي عليه تحية الصباح، لكنني لا أعرفه». تتوالى الأحداث، وتلتقي مارتا برجل آخر، تقرر ان تستأنف معه حياة لم تعشها من قبل. تستعيض عن زوج اتضح انه مجهول برجل آخر مجهول أيضا، في رسالة معبرة عن مجتمع بلغت عزلته ذروتها، فهي ليست عزلة الفرد عن الآخر فقط، بل عن ذاته التي لم تعد تعرف بمن أو بما تلوذ.

نموذجان من أفلام سينما أوروبا هذ العام، لم يخيبا آمال الجمهور، وان كانا خارج المنافسة، لكنهما بالتأكيد يستحقان جائزة المشاهد.