يرى الخبير في الحركات الإسلامية أعلية علاني* أن التطرف الجهادي ليس له حاضنة اجتماعية في ليبيا، وأن المتطرفين الجهاديين لن يتمكنوا من الاستمرار طويلا في هذا البلد وسيضطرون للفرار إلى الخارج فور نجاح الحوار الوطني الليبي.

قبل أشهر قليلة فقط كنت قد اتَّخذت موقفًا حاسمًا ضدَّ جماعة "فجر ليبيا". والآن أصبحت تدعو إلى إجراء مفاوضات مع هذه الميليشيا الإسلامية. فكيف يمكن تفسير هذا التغيير في موقفك؟

أعلية علاني: يشهد الوضع في ليبيا إلى حدّ كبير تغيرًا مستمرًا. ولذلك يجب علينا أن نضبط التحليل السياسي بحسب الأوضاع الواقعية. من المؤكَّد من دون شكِّ أنَّ ليبيا باتت تعاني اليوم من انقسام عميق وأنَّ العاصمة طرابلس - وتقريبًا غرب ليبيا كله - يخضعان في الواقع لسيطرة ميليشيا "فجر ليبيا". وأنَّ الوضع المضطرب باستمرار في ليبيا يتحوَّل على نحو متزايد إلى مشكلة إقليمية. ومن أجل تجنُّب السيناريو الأسوأ، تعقد الآن تقريبًا جميع دول شمال أفريقيا أملها على التوصُّل إلى حلّ عن طريق المفاوضات، على الرغم من عدم وجود أي تعاطف لدى هذه الدول بالذات مع ميليشيا "فجر ليبيا".

هل ينطبق هذا أيضًا على تونس؟

أعلية علاني: أجل هذا صحيح. لننظر إلى الوضع هناك: "فجر ليبيا" تسيطر على الحدود مع تونس، وكذلك مع الجزائر. وهذه الحدود تتمتَّع بالنسبة لكلا البلدين - وخاصة بالنسبة لتونس - بأهمية حيوية. ولهذا السبب فقد أطلقتا في شهر أيَّار/مايو 2015 مبادرة من أجل التوصُّل إلى حلّ عن طريق المفاوضات، وقد سافر عبد الحكيم بلحاج - وهو القائد السابق للمجلس العسكري في طرابلس وممثِّل ميليشيا "فجر ليبيا" - في مهمة رسمية إلى الجزائر. وبالإضافة إلى ذلك فقد تم مؤخرًا في تونس استقبال رئيس وزراء حكومة طرابلس من قبل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي.

لكن حتى الآن كانت الحكومة التونسية تمتنع دائمًا عن الاعتراف بحكومة طرابلس...

أعلية علاني: هذا صحيح. فتونس لا تعترف رسميًا إلاَّ بالحكومة في طبرق. غير أنَّ الحكومة التونسية في الواقع مستعدة للتعاون مع الحكومة في طرابلس. ولهذا السبب فقد افتتحت هناك قنصلية قبل فترة قصيرة. وهذا الإجراء العملي منطقي أيضًا، وذلك بسبب وجود العديد من المشكلات الملموسة التي يجب أن يتم حلها.

أصبحت ميليشيا "فجر ليبيا" في الآونة الأخيرة تنأى بنفسها وعلى نحو متزايد عن التيَّارات المتطرِّفة. فما مدى مصداقية ذلك؟

أعلية علاني: لا يوجد لدى ممثِّلي "فجر ليبيا" الرسميين أي خيار آخر سوى أن ينأوا بأنفسهم عن الجماعات المتطرِّفة. من المعروف أنَّ جماعة "أنصار الشريعة" قد تم تصنيفها من قبل كلّ من تونس والولايات المتَّحدة الأمريكية كتنظيم إرهابي. وعندما تريد ميليشيا "فجر ليبيا" التفاوض مع هاتين الدولتين، فعندئذٍ يصبح ابتعادها عن هذه التيَّارات أمرًا لا مفر منه.

ألا يؤدِّي هذا بالنسبة لميليشيا "فجر ليبيا" إلى حالة تمزُّق وشقاق؟

أعلية علاني: من الممكن تصوُّر ذلك. ولكن لا بدّ لنا من معرفة أنَّ الجماعة الأقوى في داخل هذا التحالف المكوَّن من عدة ميليشيات لا تتمثَّل في ميليشيا جماعة الإخوان المسلمين ولا في أعضاء الجماعة الإسلامية المقاتلة السابقة بقيادة زعيمها عبد الحكيم بلحاج. بل إنَّ أقوى جماعة هي المعروفة باسم "المستقلين" في مصراتة، والذين يقف خلفهم في المقام الأوَّل رجال أعمال. وقد انضموا قبل كلِّ شيء بسبب التضامن القبلي إلى عبد الحكيم بلحاج. كما أنَّهم حريصون للغاية على إجراء حوار وطني ناجح.

أمَّا عبد الحكيم بلحاج والإخوان المسلمون فهم يدركون جيدًا من جانبهم أنَّهم أقلية وأنَّ شعبيَّتهم قد انخفضت. ولذلك فهم مضطرون إلى تقديم تنازلات. لقد سافر بلحاج إلى الجزائر، على الرغم من أنَّه يعرف جيدًا أنَّ جماعته وجماعة الإخوان المسلمين غير مرحَّب بهما في الجزائر. وفي المقابل تعتبر الجزائر مضطرة إلى التفاوض مع "فجر ليبيا".

ما هو دور المجتمع المدني الليبي في محاولة إجراء حوار وطني؟

أعلية علاني: المجتمع المدني يلعب دورًا مهمًا. لقد التقيت مؤخرًا في تونس وفدًا من المجتمع المدني الليبي. وكان هذا الوفد قد أعدَّ وثيقة من المفترض أن يتم استخدامها كأساس للمصالحة الوطنية. وتحتوي هذه الوثيقة نقاطًا منها نزع سلاح الميليشيات والانتهاء من صياغة الدستور وإجراء انتخابات برلمانية جديدة من أجل إيجاد مخرج من الوضع المتأزِّم. وهذه المبادرة لها بحسب تقديري وزنٌ كبير، وذلك لأنَّها مدعومة من قبل ممثِّلين عن نحو مائة قبيلة ليبية وألف وثلاثمائة شخصية عامة معترف بها - مثل المحامين والأطباء. كما أنَّ هذه المبادرة تمثِّل جميع التيَّارات الاجتماعية المختلفة في ليبيا.

لكن حتى الآن فشلت جميع المحاولات المبذولة من أجل التوصُّل من خلال الحوار إلى حلّ سياسي ...

أعلية علاني: المشكلة الرئيسية هي أنَّ المجموعات المتطرِّفة داخل ميليشيا "فجر ليبيا" وكذلك ميليشيات معيَّنة لا تريد أن يتم التوصُّل إلى تسوية عن طريق المفاوضات. وهذه الأطراف الفاعلة لديها مصلحة في بقاء الدولة الليبية ضعيفة. تم مؤخرًا اختطاف أكثر من مائة مواطن تونسي في طرابلس العاصمة، ومن الممكن أن يكون اختطافهم من ضمن استراتيجية "أنصار الشريعة" لإحباط مثل هذا الحلّ. غير أنَّني مع ذلك واثق من إمكانية إيجاد حلّ عن طريق المفاوضات.

يبدو أنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" يُحقِّق تقدمًا في ليبيا أيضًا، حيث باتت حاليًا أجزاءٌ من مدينة سرت - مسقط رأس معمر القذافي - تحت سيطرة هذا التنظيم. فهل يجب علينا أن نقوم بإعداد أنفسنا لسيناريو مثل الذي في سوريا؟

أعلية علاني: لا، في البدء يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنَّ الوضع الديني في ليبيا مختلف تمام الاختلاف عما هو عليه في سوريا والعراق. حيث لا توجد في ليبيا انقسامات بين الشيعة والسُّنة، وذلك لأنَّ جميع المسلمين في ليبيا من السُّنة أتباع المذهب الماكي. وفي الحقيقة إنَّ تمكُّن بعض خلايا تنظيم "الدولة الإسلامية" من تكوين نفسها في كلّ من سرت ودرنة، يتعلق في المقام الأوَّل بعدم وجود دولة مركزية قوية.

وبرأيي لا توجد لدى الجهاديين في ليبيا قاعدة اجتماعية. وفي الوقت الحاضر تتم محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" في ليبيا من قبل جماعة "فجر ليبيا" وكذلك من قبل جيش اللواء حفتر (عملية "الكرامة"). ولذلك فأنا لا أعتقد أنَّ هذه الجماعة الإرهابية سوف تتمكَّن من الاستمرار على المدى الطويل في ليبيا. وحالما ينجح الحوار الوطني سوف يضطر الجهاديون إلى الفرار خارج البلاد - ربما إلى موريتانيا وكذلك إلى غيرها من دول الساحل.

لقد تكوَّن قبل نحو عامين في تونس في منطقة جبل الشعانبي الواقعة على الحدود مع الجزائر فرعٌ من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وحتى الآن لم يتمكَّن الجيش التونسي من إخراج هؤلاء الجهاديين أو اعتقالهم. فما مدى خطورة هذا الوضع بحسب تقديرك بالنسبة لتونس؟

أعلية علاني: تعتبر كتيبة "عقبة بن نافع" في الوقت الراهن الجماعة الجهادية الوحيدة التي تشكِّل خطرًا حقيقيًا بالنسبة لتونس. أمَّا "أنصار الشريعة"، وهي المنظمة الجهادية الأكثر نشاطًا في الأعوام الأخيرة، فقد تم دحرها في تونس إلى حدّ كبير. وخلال ذلك تم سجن نحو ألف مقاتل من أفرادها، بينما ذهب الآخرون إلى ليبيا أو إلى جبل الشعانبي.

على الأرجح أنَّ الهجوم على متحف باردو يجب تفسيره على أنَّه عملية انتقام من سياسة "عدم التسامح" هذه التي تتبعها السلطات التونسية. والآن بات بعض من الأعضاء السابقين في "أنصار الشريعة" يقاتلون في صفوف كتيبة "عقبة بن نافع"، وربما يشكِّل الآخرون خلايا نائمة ترتبط معها.

ولكن مع ذلك فأنا أرى أنَّ الخطر الجهادي في تونس قليل نسبيًا. وحكومة رئيس الوزراء الحبيب الصيد تتَّبع استراتيجية جديدة ناجحة في محاربة الجهاديين. وبالإضافة إلى ذلك من الواضح أنَّ الإرهابيين لا يملكون تقريبًا أي دعم بين الأهالي.

هل يمكن الافتراض أنَّ كتيبة "عقبة بن نافع" سوف تنضم إلى ميليشيا تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي؟

أعلية علاني: في هذا الصدد كلُّ شيء يشير إلى أنَّ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب منقسم. فهكذا أعلنت مؤخرًا وكالة أنباء الأخبار الموريتانية المقرَّبة من تنظيم القاعدة أنَّ جماعة "المرابطون" الجهادية قد انضَّمت إلى تنظيم "الدولة الإسلامية". ولكن بعد ذلك بفترة قصيرة نفى هذا الإعلان مختار بلمختار، وهو رئيس هذه الجماعة، وقال إنَّ جماعته لا تزال موالية لتنظيم القاعدة.

وجماعة "المرابطون" كانت هي المسؤولة عن كلّ من الهجوم على حقل الغاز الجزائري "عين أميناس"، وكذلك عن الهجوم الذي استهدف فندقًا في مالي في شهر آذار/مارس 2015. وهذا الانقسام الواقعي يجب تفسيره بحسب رأيي على أنَّه دليل يشير إلى ضعف يعاني منه في الوقت الراهن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

حاوره: بيآت شتاوفر

ترجمة: رائد الباش

*أعلية علاني أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة منوبة التونسية وخبير متخصص في الحركات الإسلامية

حقوق النشر: موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de