كتب جيم ريد، رئيس قسم أبحاث الاقتصاد الكلي العالمي في دويتشه بنك، في تقرير في نوفمبر "نحن حاليا في خضم انتقال ديموغرافي غير مسبوق، حيث يتباطأ النمو السكاني العالمي باستمرار، مع وجود القليل من الإشارات الواضحة على أن الاتجاه على وشك التحول".

وأضاف "نظرا لأن التركيبة السكانية ستتدهور بشكل أكبر على الأرجح خلال الفترة من 2024 إلى 2049، فمن المنطقي أن تتوقع ربع قرن آخر من نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وعائدات الأسهم الحقيقية بأقل من المتوسط على المدى الطويل، خاصة في عالم الأسواق المتقدمة". وأحد الأمثلة شديدة الوضوح على خطر تراجع السكان حاليا هي اليونان، التي عانت في البداية من قرى الأشباح ثم انتقلت العدوى لتصيب بلدات بأكملها.

وفي مقهى بقرية لاستا ببلدة بيلوبونيز، التي كانت يوما ما عامرة بالزبائن، أصبح الحال أنه ما على زائرها سوى تناول مشروبه وترك تبرع ما، والاستمتاع بآثار عصر مضى. وتقدم الساحة والمدرسة والمنازل المهجورة لمحة مخيفة عن مستقبل بلد معرض بشدة لخطر انهيار سكاني. وذلك بعد أن أصبحت مئات القرى والبلدات مسكنا للأشباح في مختلف أنحاء اليونان، في علامة واضحة للغاية على سنوات من انخفاض المواليد والصعوبات الاقتصادية والهجرة الجماعية، بحسب موقع "سي إن بي سي".

ويحذر خبراء الاقتصاد من أن انخفاض عدد السكان يفرض الآن ضغوطا كبيرة على بلد خرج للتو من أزمة اقتصادية، لعدم وجود ما يكفي من الشباب لدعم الاقتصاد على مدى الأجيال القادمة.

وقال الخبير الاقتصادي بيرت كولين في مؤسسة "آي إن جي" إنه " بينما تشهد اليونان نموا قويا للغاية حاليا، إلا أنه بالنظر إلى المستقبل، ومع وجود عدد أقل من الأشخاص للقيام بالعمل، سيكون من الصعب الحفاظ على ذلك".

وتعد اليونان موطنا لأحد أدنى معدلات الخصوبة في أوروبا عند معدل 1.3، وهو نصف ما تم تسجيله في عام 1950 وأقل بكثير من 2.1 المطلوب لاستبدال السكان.

وفي العام الماضي، سجلت البلاد ما يزيد قليلا على 71400 حالة ولادة، وهو أدنى رقم منذ بدء التسجيل منذ نحو قرن، وأقل بنحو 6% عن عام 2022. ولدى اليونان الآن نحو حالة ولادة واحدة لكل حالتي وفاة، وحصة السكان الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما هي ضعف حصة السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و14 عاما.

دفع هذا رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى التحذير من تهديد "وجودي" للمجتمع اليوناني. وفي العام الماضي قال ميتسوتاكيس في مؤتمر ديموغرافي يوناني "الحقيقة هي أن شعبنا اليوم من بين أكثر الناس تقدما في السن في أوروبا". وتابع أن "الاستراتيجيات الوطنية ليست كافية مع تحول الانهيار الديموغرافي الشامل حرفيا إلى رهان وجودي لمستقبلنا".

وهناك حاليا عشرات المدن والقرى النائية المهجورة وتم نسيان العديد منها تقريبا، حيث أصبحت المباني المتداعية هي العلامات الوحيدة للحياة السابقة. في الوقت نفسه، أصبحت أماكن أخرى مثل لاستا مصدرا للسياحة غير التقليدية، حيث يحرص زوار المقهى والمباني المهجورة على تجربة جزء من التاريخ. وفي آخر تعداد سكاني في اليونان في عام 2021، كان عدد سكان لاستا الدائمين 12 نسمة، ولكن عندما زارت "سي إن بي سي" المكان في عام 2024، لم تكن هناك أي علامات على وجود مقيمين دائمين.

ويمكن إرجاع التراجع الديموغرافي الأخير في اليونان إلى حد كبير إلى أزمة الديون السيادية التي عصفت بالبلاد في عام 2009. فقد أشعلت برامج الإنقاذ الناتجة عن ذلك شرارة سنوات من التقشف والبؤس المالي للبلاد، مع انكماش الاقتصاد بنحو الربع على مدار العقد التالي. وكان الشباب من بين الأكثر تضررا من الركود، حيث بلغت البطالة بين الشباب ذروتها عند 59.5% في الربع الأول من عام 2013، أكثر من ضعف أعلى مستوى وطني يبلغ حوالي 27%. نتيجة لذلك، لم يتمكن العديد من الشباب من بناء حياة جديدة خارج منازل أسرهم. وهاجر ما يقدر بنحو 400 ألف شخص - أو 9% من القوة العاملة، خلال هذه الفترة. وانتقل الكثير من الباقين إلى المدن الكبرى في اليونان، بحثا عن عمل وتعليم أفضل.

واليوم، يعيش أكثر من نصف (53.5%) من سكان اليونان في العاصمة أثينا ومنطقة أتيكي المحيطة بها، فضلا عن ثاني أكبر مدينة في البلاد، سالونيك. وفي الوقت نفسه، سجلت جميع المناطق الأخرى، بما في ذلك الجزر اليونانية الثمينة، انخفاضا في عدد السكان على مدار السنوات العديدة الماضية.

وتتوقع الحكومة حاليا أن ينخفض عدد السكان من نحو 10.4 ملايين اليوم إلى 7.5 ملايين بحلول عام 2050، وهو انخفاض يزيد عن الربع. وللمساعدة في معالجة هذه القضية، أطلق ميتسوتاكيس العام الماضي وزارة جديدة للتماسك الاجتماعي والشؤون الأسرية لتوحيد وتعزيز الدعم للأطفال والفئات الضعيفة.

وفي أكتوبر أعلنت الوزارة أنها ستنفق 20 مليار يورو (21 مليار دولار) حتى عام 2035 على حوافز لوقف انحدار السكان، مثل إعانات الأطفال، وتعزيز إجازة الوالدين والإعفاءات الضريبية. وقالت صوفيا زاخاراكي، التي ترأس المكتب، إن التدابير صممت لتوفير جرس إنذار للمجتمع.

وقالت زاخاراكي، وزيرة التماسك الاجتماعي والشؤون الأسرية، لشبكة سي إن بي سي عبر مكالمة فيديو: "نحن بحاجة إلى صدمة. نحن بحاجة إلى شيء يخلق، كما تعلمون، شعورا بالأمان والشعور بالتفاؤل، وخاصة بين الشباب".

وتابعت "نحن لا نواجه تأثيرا اقتصاديا فحسب ... بل نواجه أيضا مشكلة عقلية تم غرسها في أذهان العديد من الشباب، ربما بسبب الأزمة المتكررة وربما الشعور بخيبة الأمل"، مضيفة أن التمويل يجب أن يمنح المزيد من الناس خيار تكوين أسرة.

ويتعارض الانحدار الديموغرافي في اليونان مع التوقعات الاقتصادية الأفضل كثيرا في البلاد الآن. فمن المتوقع أن ينمو الاقتصاد اليوناني بنسبة 2.2% في عام 2024، و2.3% في عام 2025 - متجاوزا الاقتصادات الرئيسية في أوروبا.

رغم ذلك، يحذر خبراء الاقتصاد من أن الانحدار الديموغرافي قد يقوض في نهاية المطاف هذا النمو على المدى الأطول. وقال بيرت كولين "التطورات الديموغرافية هي مفتاح النمو الاقتصادي بشكل عام. فالأمر يتعلق بعدد الأيدي العاملة التي يتعين عليك العمل بها ومدى إنتاجيتها"، وسلط الضوء على "الارتباط القوي" بين نمو السكان في سن العمل ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

اليونان ليست وحدها في هذه الظاهرة، فالانحدار الديموغرافي هو قضية تواجه العديد من الدول المتقدمة. ومن بين الأمثلة المعروفة للدول التي تعاني من الانحدار الديموغرافي اليابان وكوريا الجنوبية بمعدلات خصوبة تبلغ 1.2 و0.72 في عام 2023 على التوالي، وهناك الكثير من دول الغرب تعاني المشكلة نفسها، والصين أيضا، لديها سكان يتقدمون في السن بسرعة وتحتاج إلى دعم حكومي أكبر.