في صباح يوم 12 من يوليو سنة 1854، كان زوجان شابان من ولاية نيويورك الأمريكية، ينتظران مولودهما الثالث، وهما يتمنيان أن يكون صبياً وأخاً لابنتين.

وعندما أطلق جورج إيستمان كوداك صرخته الأولى، لم تتسع الدنيا لفرحة والديه، خصوصاً والده الثري، الذي كان يعمل بمجال الزراعة، ويمتلك مؤسسة كبرى، وأسس ما عُرف في حينها باسم «كلية إيستمان التجارية»، التي كان لها اسمها في أربعينيات القرن التاسع عشر.

كبر جورج ودخل المدرسة، لكن حدث أن أصيب أبوه بمرض عضال في المخ، وتدهورت حالته بسرعة قياسية، فاضطرت الأسرة إلى بيع ممتلكاتها، بعد نفاد ما معها من أموال على علاج الأب، لكن باءت محاولات علاجه بالفشل، وبعد موته، تركت الأسرة العمل بالزراعة، وساءت أحوالها المادية، لا سيما بعد أن أصيبت إحدى شقيقتيه بالشلل، وصارت تمارس حياتها على كرسي متحرك، فاضطرت الأم إلى إلحاق الصغير جورج بمدرسة داخلية.

توثيق الرحلة

عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره ترك الدراسة، حيث جاءت ملاحظات كل معلمي الصفوف عنه أنه «غير كفء»، فاضطر إلى العمل، ولم يجد غير وظيفة «حارس» في شركة تأمين، واستمر فيها رغم ضآلة أجرها، إلى أن انتقل إلى وظيفة بحسابات بنك «روتشستر»، وفي سنة 1877 بدأ العمل في العقارات، بناءً على نصيحة أحد أصدقائه، حيث كانت تجارة الأراضي آنذاك رائجة، لا سيما في جزر الكاريبي. حمل جورج أغراضه وتوجه إلى تلك المنطقة البكر في تجارة الأراضي، وكان من بين ما حمله معه، كاميرا تصوير فوتوغرافي، فقد أوحى إليه صديقه ذلك بتوثيق رحلته إلى هناك، ولم يكن يعلم أن رحلته هذه سوف تكون بداية لاختراع كاميرات «كوداك» الشهيرة، وأن اسم عائلته، سوف يرتبط بهواية وحرفة التصوير، مهما تتقدم تلك الصناعة.

عالم الصورة

حمل جورج معه كاميرا بدائية، بحجم فرن مايكرويف، وتعمل بألواح الكولوديون الرطبة، حيث لم تكن الأفلام الخام الجافة قد اختُرعت بعد. وعلى الرغم من المعاناة التي لاقاها في حمل الكاميرا خلال رحلته إلى الكاريبي، فإنه شُغف بعالم التصوير، حتى إنه نسي هدفه الرئيس من الرحلة، وكان من الطبيعي أن يفشل في مهمته التجارية.

عاد جورج كوداك إلى نيويورك، وقد تلبسه شيطان التصوير، فأخذ يبحث عن كل ما يتعلق به من معدات ومواد كيماوية ومستلزمات أخرى، وبدأ يتعلم كيف يصنع شرائح أو ألواح التصوير بنفسه، بعد أن قرأ خبراً عن تصنيعها في بريطانيا، وذات ليلة، وهو منهمك في صنع لوح، تساءل: لماذا لا تكون هناك شرائح جافة؟ ولم ينتظر كثيراً لتحقيق فكرته التي قلبت عالم الصورة رأساً على عقب، وطوال 3 سنوات، كان يقضي ليله في تجربة صنع شرائح جافة للتصوير الفوتوغرافي، باستخدام بروميد الفضة، ويذهب بالنهار إلى عمله بالمصرف، ونجح في ابتكار ماكينة صغيرة، ساعدته على تحقيق فكرته، وصنع أكبر عدد من الألواح الجافة.

عندما وجد جورج كوداك أن عمله بالبنك يقف عقبة في سبيل إكمال مشروعه، قدم استقالته، وأسس شركة خاصة لصناعة شرائح التصوير، وبدأ يوزع منتجاتها على عملائه، لكن سرعان ما تلقى شكاوى من بعضهم من أن هذه الشرائح تتلف بسرعة، فاضطر إلى سحبها، وردّ إلى عملائه ما دفعوه فيها كاملاً، ما كبده خسائر مادية كبيرة، غير أنه لم ييأس، ولم يتراجع عن تحقيق حلمه، وفي سنة 1880، ارتفع إنتاج الشركة إلى 4 آلاف لوح تصوير.

صانع الثورة الفنية

في سنة 1888، كان جورج إيستمان كوداك على موعد مع صناعة التاريخ، حين فكر في لف شرائح التصوير الجافة وجعلها شريطاً (الأفلام)، حول عمود يسمح لها بالدوران بحركة انسيابية في أثناء التقاط الصورة، أو عند تجهيزها آلياً لالتقاط صورة جديدة، وفي السنة نفسها، أحدث ثورة في عالم التصوير الفوتوغرافي، عندما سجل براءة اختراع لكاميرا تعمل عن طريق لف الفيلم على بكرة، فتسمح بالتقاط 100 صورة، إضافة إلى ميزة أخرى، وهي صغر حجمها، حتى إنها سمحت لغير المحترفين بتسجيل لحظات حياتهم ومناسباتهم العائلية والخاصة في صور، وأطلق عليها بالطبع اسم «كاميرا كوداك»، وكانت تباع مقابل 25 دولاراً (تعادل قيمتها السوقية اليوم نحو 760 دولاراً)، وجاءت على شكل صندوق مغطى بالجلد، مع عدسة دائرية، وزرّ على الجانب لالتقاط الصورة، ولا تزال كاميرات كوداك حتى يومنا هذا، من أشهر الأسماء في عالم الصورة، وما زال شعار الشركة القديم «اضغط على الزر، واترك لنا الباقي»، ماثلاً في أذهان عشاق فن التصوير الفوتوغرافي.

الرسالة الأخيرة

في سنة 1924، تبرع جورج إيستمان كوداك للمؤسسات والمشروعات الخيرية بـ 75 مليون دولار من ثروته، التي قُدرت حينذاك بنحو 160 مليون دولار، وشارك في تجديد «مدرسة إيستمان للموسيقى»، وبنى معاهد للطب العام وطب الأسنان في مسقط رأسه روتشستر.

كما جدد مشروع مستشفى طب الأسنان «إيستمان» بلندن، وقدم تبرعات كبيرة لجامعة التكنولوجيا في روتشستر وماساتشوستس، إضافة إلى تبرعات أخرى لجامعات السود بالجنوب الأمريكي، وللخدمات الصحية بالمناطق الفقيرة في لندن، ومدن أوروبية أخرى. وفي العامين الأخيرين من حياته، عانى من آلام شديدة بالعمود الفقري، إلى درجة أنه كان يستعين بعكازين ليتمكن من المشي، وتم تشخيص حالته بأنها «شلل جزئي».

وبعد أن ماتت أمه متأثرةً بسرطان الرحم، ساءت حالته النفسية، وأصابته نوبة اكتئاب حادة، دفعته إلى إطلاق الرصاص على نفسه في يوم 14 من مارس سنة 1932، تاركاً رسالة خطية تقول «أصدقائي، مهمتي اكتملت، فلماذا الانتظار؟».