قد يكون من الخطأ، في كثير من الأوقات، أن تظن أن الأسواق المالية تخبرك بأمور مفيدة عن الحياة الواقعية. الفترة الحالية هي أحد هذه الأوقات، فإسرائيل تشهد أياماً مظلمة، كما أن مخاطر اندلاع صراع أوسع نطاقاً خارج قطاع غزة، حقيقية على نحو محبط. لكن في الوقت ذاته، يبدو أن الأسواق فاشلة للغاية في أن تعكس مدى خطورة الموقف.

يحدث ذلك، رغم أن ذاكرة المستثمرين، في ما يتعلق بموجات التوترات الجيوسياسية، قوية للغاية. وعادة ما تسفر اختبارات الصواريخ الكورية الشمالية، والربيع العربي، والأحداث المشابهة، عن تأثيرات على الأسواق مماثلة لتأثيرات الكوارث الطبيعية الكبرى في البلدان الغنية. ويكون الاتجاه حينها إلى الأمان، أو ما يُعرف باسم مزعج، هو «العزوف عن المخاطرة». لكن ذلك يُعد مزعجاً، لأن الأشخاص خارج الأسواق المالية قد يظنون أن «العزوف عن المخاطرة»، يعني انخفاض المخاطر. فيما هو يعني، في حقيقة الأمر، تراجعاً لدرجة المخاطر التي يكون المستثمرون مستعدين للمخاطرة بها في محافظهم الاستثمارية.

وعلى أية حال، تُعد سمات الاتجاه إلى الأمان متسقة. يرغب المستثمرون بالأوقات العصيبة في أشياء آمنة، ولذلك، نشهد ارتفاعاً لأسعار السندات الحكومية، خاصة سندات الخزانة الأمريكية. ويتجه الدولار الأمريكي عادة إلى الصعود، وكذا الفرنك السويسري، وهو ملاذ آمن كلاسيكي آخر. أما الين الياباني، وهو ليس النوع ذاته من العملات العالمية، فيستفيد هو أيضاً عند سحب المستثمرين المحليين لأصولهم الخارجية لإعادتها إلى موطنها في خضم الأوقات العصيبة، أو، إذا أردنا الدقة، عندما يظن المتداولون حول العالم أنهم سيفعلون ذلك. وترتفع، عادة، أسعار الذهب هي الأخرى.

لكن هذا لا يحدث في حقيقة الأمر حالياً. تصاعدت أسعار الذهب بكل تأكيد، وإن لم تقفز لمستويات شديدة الارتفاع، ولا تزال الأسعار منخفضة بنسبة 3.5 % منذ مايو، حتى بعد المكاسب البالغة 8 % منذ هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر. وبالمثل، عادت مكاسب النفط من جديد، بعدما تلاشت في أواخر سبتمبر، ما يعكس المخاوف بشأن دخول دول أخرى في الشرق الأوسط للصراع. لكن تُبقى زيادة الأسعار معتدلة، ولا تزال الأسعار دون حاجز 95 دولاراً للبرميل على نحو مريح.

يكمن الفضول الحقيقي، مع ذلك، في ما يتعلق بسندات الخزانة، التي تنخفض أسعارها بوتيرة مذهلة، وتدفع العائدات بدورها إلى الارتفاع. وسيكون أي شخص ذي اهتمام عابر بالأسواق على دراية بأن العائدات، والتي تعد ذات صلة قريبة بأسعار الفائدة القياسية، آخذة في الارتفاع منذ ما يزيد على العام، لكنها تبلغ مستويات شاهقة في الوقت الراهن، بل وواصلت ارتفاعها خلال الأسبوع المنصرم. وتسجل عائدات سندات الخزانة لأجل 10 سنوات، أعلى مستوياتها منذ 2007، مع اقترابها من 5 %.

أحد التفسيرات المُحتملة وراء ذلك، هو أنه بينما تُعد الأنباء الآتية من إسرائيل مروعة، فإن احتمالية تورط دول أخرى في النزاع بشكل مباشر منخفضة. ومداً للخط على استقامته، يُعد هذا استشراءً للعنف الذي اعتدنا عليه طيلة عقود، وليس أكثر.

ثمة تفسير آخر، هو أن الخوف حقيقي، وأن المستثمرين يأخذون الأمر على محمل الجد، لكنهم في الوقت الحالي أمام جبال القلق الخاصة بهم، التي يتعين عليهم تسلقها، لكن يتوقف الكثير على ماهية الجبل المقصود بالحديث.

وكان هوو بيل كبير الخبراء الاقتصاديين لدى بنك إنجلترا، أول من زرع هذه الصورة في وعي الأسواق خلال الصيف، حينما صرح بأن أسعار الفائدة تشبه «جبل تيبل» (في جنوب أفريقيا) على الأرجح، أي أنها مرتفعة، ولكن ذات قمة مستوية عند هذا المستوى المرتفع. وتشكّل هذه استعارة تصويرية جيدة لصيغة بقاء الفائدة عند مستويات مرتفعة لمدة أطول، التي يواجه المستثمرون صعوبة في تعلم التعايش معها.

والتكتيك البديل، كما أشار بيل، يأتي على شكل جبل «ماترهورن»، وهو جبل مدبب (بين إيطاليا وسويسرا). وبموجب هذه الصورة، تواصل الفائدة ارتفاعها، لكن البنوك المركزية تخفضها سريعاً مرة أخرى. ويحوز هذا النهج على شعبية في الأسواق الناشئة، وكان كبار المستثمرين يأملون في قرارة أنفسهم، أن تحذو الولايات المتحدة واقتصادات بارزة أخرى حذو هذا النهج، رغم تحذيرات صانعي السياسة المستمرة، من أنهم لن يتراجعوا حتى يصير التضخم تحت سيطرتهم على نحو صحيح.

إن التقبل الحقيقي لعدم خفض البنوك المركزية الفائدة سريعاً، وبالتالي، إنقاذ المحافظ الاستثمارية المتداعية لدى مديري الأصول، تثبت الأمور أنه صعب المنال. وينشد المستثمرون عوائد أعلى، مراراً وتكراراً، ويقولون إن الوقت حان للتكالب على شراء السندات، وتأمين عوائد لأعوام مقبلة. وقد يكون هذا منطقياً للمقبلين على شراء السندات، مثل سندات الخزانة والديون الحكومية البريطانية، التي تُعد فرص العجز عن سدادها ضئيلة إلى معدومة، بنية الإبقاء على السندات في حيازتهم حتى موعد استحقاقها. لكن الذين ينشدون أعلى العوائد مخطئون من جديد.

وذكر تريفور غريثام مدير الأصول المتعددة لدى «رويال لندن أسيت مانجمنت»، أن «هوو بيل تحدث عن جبل تيبل، لكني أعتقد بأن الوضع أشبه ما يكون بجبل بن نيفيس (في إسكتلندا)». وأضاف: «أنت تظل تعتقد بأنك في القمة، لكن ينقشع الضباب بعد ذلك، لتدرك أنك لست في القمة».

من الصعب على الصفقات المرتبطة بأصول الملاذ الآمن الأخرى أن تنجح، طالما ظلت السندات عالقة في الضباب الذي يكتنف القمة. فمن غير المُتوقع أن ينزلق الدولار أمام الين، على سبيل المثال. وبينما تقترب العائدات من ذروتها بشكل ما، إلا أن علاقة الارتباط بين هذين الاثنين، صمدت أمام اختبار الزمن.

ومع ذلك، يتمسّك حملة السندات بالأمل. وأفاد آخر استطلاعات «بنك أوف أمريكا»، بأن أكثر من نصف مديري الصناديق لا يزالون يتوقعون انخفاض العائدات في غضون الـ 12 شهراً المقبلة، وهي أعلى نسبة على الإطلاق منذ عقدين. سيكونون على حق في يوم من الأيام، ولكن حتى أكثر المتاعب الجيوسياسية قسوة، لن تكون كافية لتمنحهم فترة من الراحة أو تهدئة لعمليات البيع تحت وطأة الذعر. قد يتمتع جبل «تيبل» بقمة مستوية، لكنه يلقي بظلال طويلة.