إنها تلك الغريزة الكامنة في بروكسل، إذ كلما ترى صناعة حيوية، تسارع إلى تنظيمها. وبالضبط «كالتيرانوصور ريكس» في فيلم «جوراسيك بارك»، يصطاد مسؤولو الاتحاد الأوروبي حسب الحركة، إذ يهرعون خلف أي جزء ينمو من الاقتصاد بسرعة.
فريستهم الأخيرة هي الذكاء الاصطناعي، حيث وافقت دول الاتحاد الأوروبي والبرلمان على مسودة قانون للذكاء الاصطناعي الأسبوع الفائت. ويبدو أن النظام سيكون من نوع النظم الكلاسيكية التي يتميز بها الاتحاد الأوروبي، دوافعه طيبة من حيث المبدأ، لكنه معقد جداً حين يدخل حيز التنفيذ. فحين ينتقد الرئيس الفرنسي حماستك التنظيمية المفرطة، كما فعل إيمانويل ماكرون هذا الأسبوع، عليك عندها التريث والتفكير.
ومع ذلك، تسلط هذه الحادثة الضوء على أن الاتحاد الأوروبي لا يزال في الكثير من الأحيان يحدد الوتيرة التنظيمية حتى عندما تكون صناعته المحلية في هذا المجال صغيرة الحجم، ببساطة لأنه مستعد للتفكير والتحرك بمنهجية عندما لا تقوم الكيانات الأخرى واسعة النفوذ بذلك. كما كانت الحال مع لائحة الاتحاد الأوروبي لحماية البيانات، والذي أقرت في عام 2016، حيث انتقد الاتحاد حينها لخلق أعباء إدارية أفادت عمالقة التكنولوجيا الحاليين ذوي إدارات الامتثال الكبيرة على حساب الشركات الناشئة النشطة.
وبعض تلك الانتقادات كانت معقولة بلا شك، فبالتأكيد لم يساعد القانون العام لحماية البيانات في تمهيد الطريق لقطاع تكنولوجيا أوروبي متصدر عالمياً. لكنه لا يزال أقرب ما لدينا لمعيار دولي لحماية البيانات، حيث يوفر إلهاماً (إن لم يكن صيغة نسخ ولصق نموذجية) للتنظيم في جميع أنحاء العالم.
ويتبين هنا «تأثير بروكسل» حيث تحدد قواعد الاتحاد الأوروبي المعايير العالمية، ولا يتطلب بالضرورة وجود شركات تنافسية كبيرة في السوق المعنية في أوروبا.
ولكي نكون منصفين تجاه الاتحاد الأوروبي، فإن تقدير الحكم على التوازن الصحيح للمخاطر المتعلقة بقواعد الذكاء الاصطناعي يعتبر أمراً غامضاً بصورة كبيرة مقارنة بالقطاعات التقليدية التي ينطبق عليها تأثير بروكسل، مثل الكيماويات والسيارات. فحتى مبتكري الذكاء الاصطناعي لديهم آراء مختلفة بشكل كبير: حيث دعت مجموعة كبيرة من الباحثين ومسؤولي الصناعة في أبريل إلى تعليق تطوير الذكاء الاصطناعي لحين تقييم المخاطر.
وحتى إذا لم يكن الاتحاد الأوروبي بالضرورة يمثل المنظمة المثلى لتنظيم الذكاء الاصطناعي من الناحية النظرية، فإنه على الأرجح يمثل أفضل ما هو متاح حتى الآن من الناحية العملية. («لعدم وجود ما هو أفضل» كما يقولون في قصر الإليزيه) ورغم أن شركاتها متقدمة بفارق كبير عن شركات الاتحاد الأوروبي في تطوير الذكاء الاصطناعي، إلا أن الصين تعتبر دولة مراقبة لاعتبار قوانينها حول تقنيات التعرف على الوجوه كنموذج يحتذى.
وثمة بعض التشريعات في الولايات المتحدة بالنسبة لحماية البيانات، على مستوى الولايات، لكن حتى الآن اقتصرت إدارة بايدن على إصدار «مشروع قانون حقوق الذكاء الاصطناعي» الغامض إلى جانب أمر تنفيذي يركز على الإرشادات ومتطلبات إعداد التقارير أكثر من كونه قانوناً ملزماً. كذلك، فإن موقف الإدارة الأمريكية تجاه حوكمة التكنولوجيا مبهم، وبالتالي تظل البيئة التنظيمية في الولايات المتحدة غير مستقرة. أخيراً، أثار البيت الأبيض قلق قطاع الصناعة، حيث تخلى عن سياسة الولايات المتحدة طويلة المدى في استخدام الاتفاقات التجارية لتحرير تدفق البيانات عبر الحدود.
وتشكو شركات التكنولوجيا من بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، فبعد خمسة أشهر من إطلاقه في الولايات المتحدة يتم إطلاق تطبيق التواصل الاجتماعي ثريدز الخاص بشركة ميتا في الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع، بسبب مسائل تتعلق بمشكلات تبادل البيانات التي خلقها قانون الاتحاد الأوروبي الخاص بالأسواق الرقمية، ولكنه الشيطان الذين يعرفونه.
الاقتصادات الأصغر، من جانبها، مثل المملكة المتحدة لديها أيضاً طموحات لتحديد معاييرها. وقد روجت حكومة ريشي سوناك، التي تسعى دوماً لإظهار فوائد الخروج من سجن الاتحاد الأوروبي التنظيمي عن طريق البريكست، لنهجها الأكثر تساهلاً في التعامل مع قوانين الذكاء الاصطناعي، بدلاً مما تسميه نسخة بروكسل «العتيقة». ولكن مدى قدرة المملكة المتحدة على الاختلاف في الممارسة العملية تبقى غير واضحة، بالنظر إلى تشابك نظامها الإيكولوجي الوثيق مع الاتحاد الأوروبي.
عملياً، من الممكن ألا تقدم تشريعات الاتحاد الأوروبي في مجال الذكاء الاصطناعي نموذجاً عالمياً بالطريقة نفسها التي كانت عليها لائحة حماية البيانات. ونظراً إلى رغبة الشركات متعددة الجنسية في نقل البيانات الشخصية عبر الحدود، يوجد حافز قوي لشركاء التجارة في الاتحاد الأوروبي لقابلية تشغيل التوافق البيني، إن لم يكن هناك توافق كامل مع اللائحة العامة لحماية البيانات.
وتقيد إمكانية المملكة المتحدة للانطلاق في مغامرة تحررية في تنظيم البيانات، على سبيل المثال، حاجتها إلى الحفاظ على «قرار الملاءمة» الخاص بالاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر حماية بياناتها كافية لنقل المعلومات الشخصية بين الجانبين. وفي حالة الذكاء الاصطناعي، يمكن للشركات تشغيل خوارزميات مختلفة في مناطق مختلفة مع حوافز أقل لتقليل المعايير.
على الأقل، ستوفر تشريعات الاتحاد الأوروبي نقطة إرساء أو انطلاق تستطيع الحكومات الأخرى الرجوع إليها عند وضع قواعدها.
ويعد الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا جديدة هائلة، وليس معروفاً بعد إلى أي حد يمكن أن يغير الاقتصادات والمجتمعات، لكن توجد حاجة إلى أن يقوم شخص ما بالتفكير والتشريع بطريقة ممنهجة حول كيفية توجيه قوته نحو الخير، وكان الاتحاد الأوروبي أول من قام بذلك من بين الجهات الاختصاصية الرئيسية، وإذا أرادت الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى التجربة، فإن محاولاتها موضع ترحيب.