لطالما انطوت إدارة الدول الثرية للهجرة على نوع من الإلهاء، كالذي يقوم به الساحر المتفاخر بأدائه على المسرح، فقد أفرطت الحكومات في الولايات المتحدة وغرب أوروبا، خاصة المملكة المتحدة، طيلة عقود، في عدائها تجاه مجموعات صغيرة من المهاجرين، وعادة ما يكون ذلك ضد طالبي اللجوء.
لكن ذلك كان بمثابة ستار لقبول أعداد كبيرة من المهاجرين الاقتصاديين بهدوء، فيمنحون المصوتين المعادين للهجرة ما يريدونه من حيث المبدأ، ويوفرون للشركات المتعطشة للعمالة ما ترغب فيها من الناحية العملية. بدا وأن هذا النفاق المنظم ظل متماسكاً حتى الآن، لكن صبر الجماهير على الازدواجية ربما يوشك على النفاد.
ووفق تفسير هاين دي هاس، الأكاديمي الهولندي، في كتاب جديد يلقي مزيداً من الضوء على الهجرة، فإن الحكومات تواجه معضلة ثلاثية، لأنه لا يمكنها الإبقاء على الانفتاح الاقتصادي، واحترام حقوق الإنسان للأجانب، وتلبية أولويات مواطن
قال هاس: «يجب التخلي عن واحد من هذه المطالب الثلاثة»، وتابع أن «الخيار الأكثر جاذبية للسياسيين يتمثل في إعلانهم تضييق الخناق على الهجرة، من خلال استعراضات سياسية جريئة، تخفي حقيقة سياسات الهجرة».
لقد ظلت المملكة المتحدة تمارس هذه الخدعة منذ أكثر من 20 عاماً في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومع ارتفاع الهجرة بالفعل، تحولت حكومة توني بلير من الموقف البريطاني التقليدي المتمثل في «صافي الهجرة صفر» إلى «الهجرة المنظمة»، مع الاعتراف صراحة بمساهمة المهاجرين في النمو الاقتصادي.
ولكن هذا كان مصحوباً مُصاحباً بتضييق للخناق، اتسم بالتفاخر، على طالبي اللجوء، وتشديد للرقابة على الحدود.
وفي هذه الحالة، كانت البرجماتية والبيروقراطية غير الكفؤة لوزارة الداخلية في المملكة المتحدة، التي خسرت عشرات الآلاف من طلبات طالبي اللجوء، تعني أن العديد منهم حصلوا على الحق في البقاء. وواصلت تيريزا ماي، وزيرة الداخلية المحافظة بين 2010 و2016، هذه التسوية الجماعية للأوضاع القانونية في وقت فراغها، بدلاً من المسرح الهزلي الذي جابت فيه شاحنات «عودوا إلى منازلكم» طرقات لندن بلا هدف.
وركزت حملة استفتاء «بريكست» في 2016 على تقييد حقوق الأجانب في القدوم إلى بريطانيا. واختلق بوريس جونسون، المؤيد لخروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، والذي صار رئيساً للوزراء اعتباراً من 2019، خطة سخيفة تقتضي بإرسال الراغبين في اللجوء إلى رواندا للاستقرار هناك.
لكن تبين أن هذا كان مجرد ستار من الدخان، حيث خفف جونسون أيضاً قيوداً على تأشيرات الطلاب الدوليين والعاملين في مجال الصحة. وارتفعت معدلات الهجرة إلى المملكة المتحدة، ما انطوى على قبول أعداد كبيرة من الأوكرانيين وغيرهم لأسباب إنسانية.
وعلى نحو مشابه، قبل تفشي قبل تفشي كوفيد 19، سمحت الولايات المتحدة بدخول أعداد كبيرة من الأشخاص خلال رئاسة دونالد ترامب، رغم خططه بحظر المهاجرين من الدول الإسلامية وبناء «جداره الجميل» على الحدود المكسيكية.
وفي الوقت نفسه، أبرم الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي، وإيطاليا بشكل فردي، صفقات مع ليبيا عام 2017 لإعادة طالبي اللجوء إلى «معسكرات الاعتقال».
حيث يتعرض النزلاء للتعنيف ــ وهي سياسة أكثر إثارة للاشمئزاز من أي سياسة نفذتها المملكة المتحدة أو ترامب على الإطلاق، رغم ذلك، ظل المعدل الإجمالي للهجرة إلى الكتلة بمستويات مرتفعة حتى بعد تراجع موجة طالبي اللجوء من سوريا وأماكن أخرى في أزمة الهجرة عام 2015.
ويقول دي هاس إن الحكومات الجادة في ردع الهجرة غير الشرعية ستنفق أقل على مسرحيات أمن الحدود وأكثر في العثور على المهاجرين غير الشرعيين في القوى العاملة وترحيلهم. وتنفق وكالة الهجرة والجمارك الأمريكية، المشهورة بسياساتها الصارمة على الحدود، ثُمن ميزانيتها فقط على تحقيقات الأمن الداخلي المحلي.
ومنذ عام 1986، عندما أصبح توظيف المهاجرين غير الشرعيين جريمة جنائية، لم تشهد أمريكا سوى 15 إلى 20 محاكمة سنوياً، مع غرامات بين 583 دولاراً إلى 4667 دولاراً وهناك نقص مماثل للإنفاذ في أوروبا.
ولكن هل اكتشف بعض الناخبين والمشرعين أخيراً خفة اليد؟ وفي المملكة المتحدة، استمر ريشي سوناك، خلفاً لجونسون كرئيس للوزراء المحافظين، في محاولة تنفيذ خطة رواندا غير العملية إلى حد كبير. وأدى فشلها إلى إثارة المشاعر المناهضة للهجرة بين العديد من النواب المحافظين.
كانت هناك عملية تطهير للمنتمين إلى يمين الوسط من المعتدلين أصدقاء رجال الأعمال في حزبه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما لم يترك سوى عدد قليل جداً من أعضاء البرلمان الذين يقاومون الأيديولوجيين القوميين.
واضطر سوناك، استرضاء للقوميين، لاتخاذ خطوات عدة ضارة اقتصادياً، مثل رفع الحد الأدنى للرواتب للحصول على تأشيرات عائلية ومنع الطلاب الأجانب من جلب أقاربهم إلى المملكة المتحدة.
وفي الاتحاد الأوروبي، ما زال هناك قادة يمارسون لعبة النفاق القديمة، أمثال رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية الشعبوية، جورجيا ميلوني، بفضل خطاب معاد للهجرة ومنعت حكومتها إرسال الفرق الإنسانية لإنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط، تزامناً مع إصدار نحو نصف مليون تصريح عمل للمهاجرين من غير مواطني الاتحاد الأوروبي.
يحاول الاتحاد الأوروبي جماعياً، على نحو مماثل، الذي يخشى فقدان المنافسة العالمية على العمالة عالية الإنتاجية، اجتذاب العمالة الماهرة من المهاجرين من خارج الكتلة، عن طريق خطة «مجمع للمواهب»، ويطلق عليها اسم موفق هو «تيندر للوظائف».
ومع ذلك، تحتل موجة من المرشحين المعادين بشدة للهجرة، مستويات مرتفعة في استطلاعات الرأي قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي هذا العام.
وإذا أعيد انتخاب ترامب عام 2024، فإن تعليقاته البغيضة بشأن المهاجرين غير الشرعيين الذين يسممون دماء أمريكا ستخلق أيضاً توقعات بشن حملة قمع عامة وربما تكون لعبة التشدد مع اللاجئين والمعاملة الناعمة للعمال قد انتهت، خاصة في المملكة المتحدة.
لقد نجح الجمهور في إدراك الخدعة وبدؤوا في مضايقة الساحر. لكن إذا كان البديل هو المجازفة بالصدق مع الناخبين، فقد تعتقد الحكومات أن الأمر يستحق تجربة الحيلة التي تمت ممارستها بشكل جيد مرة أخرى.