إذا كان ثمة جانب واحد تتعمد فيه الحكومات التعتيم بانتظام، وتأمل ألا يدرك ناخبوها التناقض الصارخ في السياسة، فهو الهجرة.
وكانت الاقتصادات الغنية لعقود طويلة، تتصرف بخسة تجاه طالبي اللجوء كغطاء لقبول العمال للحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد، لكن هذا النوع من الخداع أصبح أكثر وضوحاً، وأحد الأهداف هو الطلاب الدوليين.
في المجمل، يستفيد الاقتصاد من قبول الطلاب الأجانب، سواء للدراسة، أم العمل بعد الانتهاء من دراستهم، إلا أن الحكومات غالباً لا توضح هذه المكاسب، ولا تخفف الأثر على السكان المحليين المتضررين.
توسعت صادرات التعليم العالي من خلال قبول الطلاب الدوليين بشكل كبير في العقود الأخيرة، خصوصاً في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، أو التي تتقن الإنجليزية؛ المملكة المتحدة، وأستراليا، وكندا، وهولندا، والدنمارك.
فهي صناعة عالمية تنافسية مع عملاء مستنيرين، فعندما أغلقت أستراليا حدودها خلال جائحة كورونا، اتجه العديد من الطلاب المحتملين إلى المملكة المتحدة، وفقاً لمديري الجامعات.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن المملكة المتحدة صدرت خدمات تعليمية خلال عام 2020 بقيمة 26 مليار جنيه أسترليني، أي 8 % من إجمالي صادراتها من الخدمات، وكانت أغلبها في قطاع التعليم العالي. وكانت هذه الأرباح أعلى من مبيعات المملكة المتحدة في الخارج من الأدوية أو قطاع الطيران.
ومع ذلك، تعرضت جميع الدول التي حققت مكاسب جيدة من هذا الاتجاه أيضاً إلى ردة فعل شعبية عنيفة استجابت لها الحكومات. هولندا، التي تشعر بالقلق إزاء التكدس في الجامعات، والنقص في أماكن السكن وتآكل اللغة الهولندية.
والتي سبق وقدمت التدريس باللغة الإنجليزية على أنه فضيلة، قررت العام الماضي الحد من عدد الطلاب الدوليين، وتقليل محتوى الدورات باللغة الإنجليزية. كما قامت الدنمارك بتغييرات مماثلة لمدة عامين بدءاً من عام 2021.
وفرضت كندا أخيراً حداً أقصى على تصاريح الطلاب الدوليين. ووصف رئيس جمعية التعليم الدولي في أستراليا، الوكالات الخاصة التي توظف طلاب التعليم العالي، الذين التحقوا في الواقع بوظائف مدفوعة الأجر بدلاً من الدراسة، بأنه «مخطط احتيال».
وفي المملكة المتحدة، بات ثمة مخاوف من أن يحل الطلاب الدوليين محل البريطانيين في الجامعات. وهناك مخاوف أيضاً من أن تصبح تأشيرات الطلاب في جوهرها تأشيرات عمل، وتحديداً في قطاع الرعاية، وهي قضية تناولها تقرير حديث لمجموعة أبحاث «مرصد الهجرة»، بناءً على طلب من «فاينانشيال تايمز».
وقام رئيس الوزراء ريشي سوناك أخيراً بتغيير اللوائح لمنع حاملي تأشيرات الطلاب من جلب ذويهم للعيش في المملكة المتحدة.
لا يحظى رد الفعل هذا دوماً بانتشار واسع النطاق، وينحصر غالباً بين الأشخاص ذوي الثقل السياسي. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تظهر استطلاعات الرأي أن الجمهور ينظر عادة إلى الطلاب الأجانب بصورة إيجابية، وأنهم يختلفون عن المهاجرين، ويستهينون بأعدادهم، رغم أن هذه المشاعر باتت أكثر تشككاً العام الماضي. لكن سوناك يحاول باستمرار استرضاء نوابه اليمينيين.
وفي هولندا، كانت المخاوف المتعلقة باللغة الهولندية، التي أعربت عنها الحكومة السابقة بقيادة مارك روتي، تعكس على الأرجح التحدي الذي يواجه حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدز، الذي جعل من القضية أمراً جللاً. (جاء حزب الحرية في المرتبة الأولى خلال الانتخابات الأخيرة على أية حال).
وتتلخص المحصلة النهائية لهذا التأرجح، في أنه يتم إخضاع صناعة ناجحة للغاية لتقلبات كبيرة في السياسة، والذي يمكن أن يكون حالة استثنائية في أماكن أخرى (مع الاستثناء المعتاد للشركات البريطانية بسبب البريكست). فقد شهد قطاع التعليم العالي في المملكة المتحدة حالة من الازدهار والتراجع على مدار العقد الماضي.
وفي عام 2011، أنهت الحكومة «مسار العمل بعد الدراسة» أمام الخريجين الراغبين في البقاء بالبلاد. وتغير ذلك في عام 2019. وعكست إدارة بوريس جونسون ذلك، واعتمدت لاحقاً استراتيجية تعليمية دولية تحدد بوضوح أهدافاً لزيادة أعداد الطلاب الأجانب.
والآن يعمل سوناك على كبح جماح هذه السياسة مرة أخرى. فيما تحتاج الجامعات التي تسعى للتخطيط بحكمة للأعداد المقبلة، مثل بناء مساكن لتخفيف الضغط على القطاع الخاص المحلي المستأجر، إلى بيئة أكثر توقعاً من هذه.
في الواقع، ليس من الأمانة إنكار أن ارتفاع أعداد الطلاب الدوليين يفرض ضغوطاً على بعض الخدمات، من بينها الإسكان والمدارس المحلية.
وما لم يرتفع عدد الأماكن بنسبة واحد إلى واحد، فقد يستحوذ المتقدمون من الخارج على مزيد من الأماكن الجامعية المخصصة للمقيمين البريطانيين.
هذا يشبه أشكال التجارة الأخرى، كما يتم النظر إلى الواردات والصادرات، إلا أن الحكومات لا تقدم غالباً حجة إيجابية للتجارة عبر الحدود، ولا تحدد سياسة محلية لتخفيف آثار الخلل.
وتشير الجامعات في المملكة المتحدة إلى أن رسوم الطلاب الدوليين تساعد في إبقائها واقفة على قدميها، حيث تشكل قرابة خمس إجمالي إيراداتها.
فلقد عانوا من سيطرة الحكومة على الإنفاق على التعليم، من خلال تجميد سقف رسوم الدراسة للطلاب المحليين عند 9259 جنيهاً استرلينياً منذ عام 2017، وهي حقيقة يفضل الوزراء عدم الاعتراف بها. ويتجه الطلاب الأجانب إلى العمل في قطاع الرعاية بسبب نقص عدد المقيمين البريطانيين الراغبين في القيام بذلك.
كما أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) إلى إلحاق الفوضى بسوق العمل. وحاول بعض أصحاب العمل والجامعات الهولندية والدنماركية التصدي لردود الفعل السلبية. لكن ليس من مصلحة الوزراء عموماً إثارة حجج غير مريحة. ومن الأفضل انتقاد الحل غير الشعبي بدلاً من إنفاق الأموال ورأس المال السياسي لمعالجة المشكلة.
ويمكن أن تتسبب «خفة اليد» هذه في أضرار جسيمة، لأن إلقاء اللوم على الطلاب الدوليين وسيلة سهلة للتنصل من مسؤولية فشل السياسات. لكنه يضر بأحد أكثر قطاعات التصدير قيمة لبعض البلدان مثل المملكة المتحدة، التي تكافح لمعرفة من أين ستوفر صناعتها التنافسية العالمية التالية.