كانت لهجة الرئيس إيمانويل ماكرون هجومية عندما خاطب التنفيذيين والمبتكرين في قطاع الفضاء في تولوز. وقال الرئيس الفرنسي خلال التجمّع الذي عُقد في ديسمبر بعاصمة الفضاء الفرنسية: «لقد قاتلنا لأشهر قائلين إن السيادة الأوروبية تكمُن في وحدة أوروبا. لكن للأسف، فقد قرر بعض شُركائنا أن يصبحوا مُنافسين. لذا، أريدكم أن تعلموا أننا سنبذل كل جهد ممكن لنكون الأفضل».
بهذه الكلمات، أطلق ماكرون صافرة البداية لسباق البحث عن صانع الصواريخ المُستقبلي لأوروبا، والذي يملك القُدرة على إطلاق وإيصال أضخم المهام وأكثرها حساسية إلى الفضاء. ومع فتح القطاع أخيراً أمام المُنافسة، ثمّة دلالات على تفَكُك 50 عاماً من التعاون الأوروبي في مجال الفضاء.
وحَذر بيير ليونيه، مدير إدارة البحوث في يوروسبيس، الرابطة المهنية لقطاع الفضاء قائلاً: «لقد أغفل الجميع الهدف النهائي، وهو البرنامج الأوروبي».
فلعقود، كانت مجموعة أريان الفرنسية والشركات السابقة لها هم المُقاولسن الرئيسين لتطوير عائلة صواريخ الإطلاق الثقيلة أريان في أوروبا، والمُمولة بشكلٍ مُشترك. وحتى عام 2017، سيطرت شركة أريان على السوق العالمية لعمليات الإطلاق التجاري إلى المدار الثابت للأرض، وذلك على ارتفاع 36,000 كيلومتر فوق الأرض.
لكن كل هذه العوامل، تأخيرات تسليم أريان 6، والمشاكل الخاصة بصاروخ فيغا سي الأصغر حجماً الذي تُنتجه شركة أفيو الإيطالية، وانهيار التعاون في ما يتعلق بصاروخ سويوز الروسي مُتوسط الحمولة، تركت أوروبا دون قُدرة إطلاق خاصة بها. في المُقابل، اضطرت الكُتلة للجوء إلى سبيس إكس التابعة لإيلون ماسك حتى في المهام الحساسة.
وقال جوزيف أشباخر، المُدير العام لوكالة الفضاء الأوروبية، واصفاً نقص قُدرة الإطلاق بأنها «أزمة» بالنسبة إلى إمكانية وصول أوروبا السيادي إلى الفضاء. ولطالما نادى أشباخر بضرورة وجود نموذج على غرار وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، والذي في إطاره لن تشتري أوروبا أنظمة الصواريخ، بل تشتري خدمات الطيران من شركات الإطلاق التجارية الأوروبية.
وتحققت أمنيته في نوفمبر الماضي، حيث قَرَرت الدول الأعضاء في وكالة الفضاء الأوروبية إطلاق مُسابقة جيل الصواريخ القادم، بدءاً بصاروخ مُتوسط الحجم كحلقة وصل بين الصواريخ الصغيرة والصواريخ الثقيلة، ثم تطوير خليفة لصاروخ أريان 6. وهكذا، لن تكون مجموعة أريان، المملوكة لشركتي إيرباص وسافران الفرنسيتين، المُقاول الرئيس المضمون بعد الآن.
جاءت المُطالبة بالمُنافسة من ألمانيا، موطن بعض الشركات الناشئة الواعدة في مجال الصواريخ في أوروبا. كان هذا هو الثمن التي اضطرت فرنسا لدفعه مُقابل الدعم الألماني لحزمة دعم أوروبية بقيمة مليار يورو لأريان 6. وبدون هذا الدعم، كان سيصعب على أريان 6 التي تُستخدم مرة واحدة، مُنافسة فالكون 9، من شركة سبيس إكس، القابل لإعادة الاستخدام.
قال توني تولكر نيلسن، المُدير بالإنابة للنقل الفضائي في وكالة الفضاء الأوروبية: «كان يجب على أريان 6 أن يكون قادراً على المُنافسة في السوق التجارية بدون حاجة للدعم. وهذا لم يُحقق، وحالياً تُريد الدول الأعضاء منا تغيير النظام».
عندما أُبرم الاتفاق على المُنافسة، انسحبت شركة أفيو الإيطالية بصاروخها الصغير فيغا من شركة أريان سبيس، الشركة الفرعية لمجموعة أريان التي تسوق وتُدير جميع عمليات الإطلاق الأوروبية. وعارضت شركة أفيو خطة مجموعة أريان لاستهداف سوق فيغا بواسطة شركتها الناشئة للصواريخ الصغيرة، مايا سبيس.
وقال جوليو رانزو، مُدير شركة أفيو التنفيذي: «كيف يُمكن لمؤسسة تنظيم المبيعات والتسويق أن تبني مُنتجاً مُنافساً؟ فإذا كانت شركة أريان ستكون شركة مُنافسة، فبالتأكيد لن ترغب في أن يكون لديها معلومات عن صاروخك».
قال مسؤولون من وكالة الفضاء الأوروبية، التي تعمل بشكل مُستقل عن الاتحاد الأوروبي لكنها تعمل كوكالة التوريد له، وتضُم دولاً من خارج الاتحاد الأوروبي مثل المملكة المُتحدة وسويسرا، إن الهدف لم يكمُن في استبدال الشركات القائمة، مثل مجموعة أريان وأفيو، بل لدفعهم كي يكونوا أكثر كفاءة.
قال تولكر نيلسن: «أردنا أن نوجه لهم صدمة توقظهم. وقد نجحنا في ذلك. لقد قُمنا بتغيير جذري في نمط الوصول إلى الفضاء».
لكن مثلهم مثل العديد من الدول، ترغب الدول الأعضاء في الحصول على حصتها من الاقتصاد الفضائي المُزدهر، الذي يتوَقع مورغان ستانلي أن يصل قيمته إلى تريليون دولار بحلول عام 2040.
والقدرة على الإطلاق هي المفتاح: لدى أوروبا قرابة 20 شركة ناشئة تعمل على تطوير صواريخ متناهية الصغر، ولدى مُعظمها خطط لتطوير صواريخ أكبر. وقال تولكر نيلسن: «علينا تجنُب تحوّل هذا إلى مُنافسة بين الدول. لأنه عندها لن يكون الأمر سهلاً»
. والمُنافسة تعني أن وكالة الفضاء الأوروبية ستحتاج إلى إعادة النظر في مبدأ العائد الجُغرافي، حيث تُخصص العقود للدول الأعضاء بنسبة تتناسب مع استثمارها في برنامج الصواريخ. ويقول المُعارضون إن هذا سيؤدي إلى سلسلة إمداد غير تنافسية، تُفضل المُستثمرين الأكبر حجماً لا الأكثر كفاءة.
وحسبما يقول ليونيه فإن إلغاء النظام يُشكل خطراً: «مع العائد الجغرافي، يعرف مديرو البرنامج ما هي ميزانيتهم ومن هم الموردون. كما سيكون الأمر صعباً على الحكومات، التي لن تعرف إذا ما كان عليها استثمار 20 مليون يورو أم 100 مليون يورو».
ومع ذلك، يأمل أشباخر أن يؤدي تحرير مُقدمي عمليات الإطلاق لاختيار مورديهم مع ضمان عائدات عادلة للدول الأعضاء إلى خفض تكاليف المهام وتحفيز قطاع الفضاء التجاري الأوروبي.
لم تؤدِ عقود ناسا إلى تعزيز نمو سبيس إكس التابعة لإيلون ماسك فحسب، بل إن صواريخها القابلة لإعادة الاستخدام خفضت تكاليف الإطلاق بشكلٍ كبير، مما خلق صناعة فضاء نشطة في الولايات المُتحدة. وقال المُدير العام لوكالة الفضاء الأوروبية لصحيفة فاينانشيال تايمز: «لقد نظرنا في النموذج الأمريكي وتعلمنا الدرس. سنمنح الصناعة الحُرية للقيام بالأمور بأفضل طريقة مُمكنة من وجهة نظر القائمين عليها».
ومع هذا لم يقتنع الجميع. ورأت لوري جارفر، النائبة السابقة لمُدير وكالة ناسا، أن التحوّل الاستراتيجي لوكالة الفضاء قد يصعُب تكراره، قائلة: «وُضِعنا في حالة فريدة مع أغنى شخص في العالم، حيث كانت استراتيجياتنا مُتماشية مع ما أراد القيام به بكل حال من الأحوال».
وستُضطر الصواريخ الأوروبية إلى أن تُنافس ليس فقط فالكون 9 من سبيس إكس، إنما أيضاً صواريخ ستارشيب العملاقة، والتي من المُتوَقَع أن ترفع حمولات تصل إلى 150 طناً إلى المدار حين تدخل طور التشغيل بشكلٍ نهائي.
والأهم من ذلك كله، قد تجد أوروبا صعوبة في ضمان وجود طلب مُتكرر كافٍ للمساعدة في خفض التكاليف.
فإن مُتطلبات مشاريعها، مثل نظام الملاحة غاليليو، وإطلاق كوكبة النطاق العريض المُخطط له أو ما يعرف بـ(البنية التحتية للمرونة والترابط والأمن عبر الأقمار الصناعية)، أو المهمات العلمية، ضئيلة بالمُقارنة مع مشاريع الولايات المُتحدة. قال ليونيه: «ليس لدينا حجم كبير من الطلب على أنظمة الإطلاق كما لدى الأمريكيين».
تُقدر شركة الاستشارات الفضائية يوروكونسلت أن الإنفاق السنوي للحكومات الأوروبية على قطاع الفضاء، سواء من خلال البرامج الوطنية أو وكالة الفضاء الأوروبية، في عام 2022 كان أقل من ثُلث ما تنفقه الولايات المُتحدة.
ويتعين على الدول الأعضاء، لتحقيق نجاحات في هذا القطاع، الاتفاق على تجميع احتياجاتها المؤسسية للإطلاق لدعم هؤلاء المُنافسين الأوروبيين، حتى لو كان هُناك خيارات أُخرى أرخص.
حسبما ذكر توكلر نيلسن، فقد حاولت وكالة الفضاء الأوروبية لسنوات القيام بذلك، لكنها «لم تنجح». إن شركات الصواريخ الناشئة في أوروبا تُرحب بالمُنافسة، لكن بعضها يُصر على ضرورة وجود إشارات أقوى لإقناع المُستثمرين.