هل ضقت ذرعاً بمسألة العمل من المنزل برمتها؟ هل تشعر بأنك تعلم ما يكفي حيال طلب الرؤساء من الجميع العودة إلى المكتب لأنه أفضل لسير الأعمال، ورد الموظفين بأنهم يفضلون ألا يفعلوا ذلك، لأن الوظيفة الخالية من التنقل هي السعادة القصوى بالنسبة إليهم؟

وإحقاقاً للحق، لقد ظننت أنني أعرف كل ذلك، لكني اضطررت لإعادة النظر في الأمر من جديد، ويعود الفضل في ذلك إلى مصرف إنجلترا.

لقد اشترك المصرف، في العام 2016، مع خبراء اقتصاد من جامعات بالمملكة المتحدة والولايات المتحدة، لإطلاق لجنة لصناع القرار، وهي تعمل على إجراء استطلاعات بصفة منتظمة تشمل الرؤساء التنفيذيين وكبار المسؤولين الماليين في شركات بالمملكة المتحدة، بهدف تتبع كيفية استجابة الشركات لأوجه عدم اليقين المتعددة.

وقد كشف تحليل للاستطلاعات الأخيرة، يغطي 2,500 شركة، عن أن الكثير مما نعتقد أننا نفهمه بشأن العمل من المنزل كان خاطئاً، بداية من فكرة أن العمل من المنزل في صالح الموظفين بصورة موحدة، أو على الأقل لحزم أجورهم.

وأظهرت البيانات أن الشركات التي لديها عدد كبير من الموظفين العاملين من المنزل شهدت نمواً منخفضاً للأجور منذ 2022. وبصفة عامة، تفيد الأرقام بأن هناك نصف نقطة مئوية أقل في النمو لكل يوم إضافي من العمل عن بُعد.

أتذكر الآن خبراء اقتصاد وهم يتوقعون حدوث ذلك، بعد الاندفاع إلى العمل عن بُعد الذي سببته جائحة فيروس كورونا، وهو ما يعود جزئياً إلى أن الشركات سيكون لديها مجال أكبر للتوظيف، كما يعود إلى تفضيل الموظفين للعمل وهم يرتدون ملابس النوم. لكن الموظفين البريطانيين أطلعوا الباحثين في 2021 على أن العمل من المنزل ليومين في الأسبوع، كان بمثابة ميزة، تساوي ما يصل إلى زيادة للأجور بنسبة 6 %.

وصارت قيمة الوظيفة التي تتيح العمل من المنزل أكثر وضوحاً منذ حينها في أماكن مثل الولايات المتحدة. وأفاد موقع «لينكد إن» منذ أسبوعين، بأن 39 % من الموظفين الأمريكيين يرغبون حالياً في وظائف تُنجز من المكتب. أما البقية، فترغب في شغل وظيفة عن بُعد كلياً، وبلغت نسبتهم 29 %، أو نظام عمل هجين يخلط بين العمل عن بُعد ومن المكتب وبلغت نسبتهم 30 %.

لكن المشكلة تكمن في أن عدد الوظائف عن بُعد التي يُعلن عنها على موقع «لينكد إن» انخفضت كثيراً منذ 2022، ما يعني أن الطلب يتجاوز المعروض منها كثيراً. ويمثل النمو الأقل للأجور واحداً من الأخبار السارة لأرباب العمل التي أفصحت عنها بيانات مصرف إنجلترا.

ثمّة ارتباط أيضاً بين العمل من المنزل وارتفاع الإنتاجية. وبحسب باحثين، يعني هذا ارتفاع إنتاجية الموظفين بما يصل إلى نحو 15,000 جنيه إسترليني سنوياً للمؤسسة عن كل يوم إضافي يعملونه خارج المكتب. لكن ذلك ليس دليلاً على أن العمل من المنزل يؤدي إلى ارتفاع الإنتاجية، رغم إفادة الموظفين بهذا. وإن كان هذا قد يساعد في تفسير أسباب اعتزام عدد أكبر من الشركات مواصلة الالتزام بنماذج العمل من المنزل.

وتُظهر بيانات لجنة صناع القرار أن 30 % من الموظفين البريطانيين العاملين بدوام كلي يعملون بوظائف هجينة، مقابل 8 % ممن يعملون عن بُعد تماماً و62 % يذهبون إلى المكتب، انخفاضاً من 91 % قبيل الجائحة.

ومن العجيب هنا أن رؤساء العمل يتوقعون ألا تطرأ تغيرات على هذه القراءات تقريباً خلال الأعوام الخمسة المقبلة. ومن الملاحظ أن العمل عن بُعد ما زال أكثر شيوعاً في قطاعات مثل الاتصالات والمال والتأمين.

لكن بغض الطرف عن القطاع، فإذا كان العمل من المنزل مرتبطاً بنمو أقل للأجور وارتفاع للإنتاجية وموظفين سعداء، لم إذن تأمر كارول توم، الرئيسة التنفيذية لـ«يو بي إس»، موظفيها، بالعودة إلى العمل خمسة أيام من المكتب أسبوعياً بداية من أوائل الشهر المقبل؟

طرحت هذا السؤال على نيك بلوم، من جامعة ستانفورد، وهو أحد خبراء الاقتصاد العاملين في لجنة صناع القرار. أرشدني بلوم إلى دراسة حديثة أجراها باحثان في جامعة بيتسبرغ، فحصا فيها سياسات العودة إلى المكتب في الشركات المُدرجة في مؤشر «ستاندرد آند بورز 500».

يدير هذه الشركات أناس مثل جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي لمصرف «جيه بي مورغان»، وأندي جاسي، الرئيس التنفيذي لدى «أمازون»، اللذين أوضحا بجلاء اعتقادهما في أن العمل من المكتب جيد من أجل التعاون والابتكار والتعلم، بين أمور أخرى تعزز الأداء.

لكن أكاديميي جامعة بيتسبرغ وجدا أن أوامر العودة إلى العمل من المكتب لم يكن لها تأثير تقريباً على الربحية أو القيمة السوقية، لكنها أسفرت عن «انخفاض كبير» في رضا الموظفين. ولفت الأكاديميان إلى أن النتائج التي توصلا إليها دعمت فكرة، مفادها أن مثل هذه الأوامر استخدمها مديرون من أجل «إعادة بسط سيطرتهم على الموظفين والإلقاء باللوم عليهم، باعتبارهم كبش فداء وراء الأداء السيئ للشركة».

هذه بالطبع مجرد دراسة واحدة. وفي حين أن النتائج المالية لشركة «يو بي إس» كانت مخيبة للآمال في الآونة الأخيرة، لكن هذا ليس الوضع بالنسبة لشركات أخرى تطلب من موظفيها العمل من المكتب على نحو أكبر.

ومع ذلك، فحصيلة هذا كله، مثل الكثير من الأشياء في الحياة، هي أن الحدس لا يتماشى دائماً مع الواقع.