لطالما تطلعت أوروبا إلى الاقتصاد الأمريكي على الجانب المقابل من الأطلسي، بأعين ملؤها الرهبة بل والرعب. ولن يقبل سكان الاتحاد الأوروبي بانعدام المساواة الصحية والاجتماعية في أمريكا، لكن يتمنون أن يتمتعوا بالثراء مثلهم مثل الولايات المتحدة.
وقد تجلى التوتر في 2023، حينما نما الاقتصاد الأمريكي بنسبة 3.1% على أساس سنوي في الربع الرابع، ما قزّم النمو البالغ 0.2% الذي حققه الاتحاد الأوروبي. وفي حين يستمتع الأمريكيون بقوة اقتصادية مفاجئة، تشعر فرنسا أنها مُجبرة على خفض إنفاقها العام، فيما يساور ألمانيا القلق بشأن الوقوع في ركود.
وعلى مدى فترة أطول، اتسم الأداء الأوروبي بكونه أفضل وأسوأ مما يميل الناس إلى الاعتقاد. وليس من الصائب القول، مثلما فعل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في العام الماضي، إن اقتصاد الولايات المتحدة أكبر حالياً بما يزيد على 50 % مقارنة باقتصاد الاتحاد الأوروبي، بعدما كان أصغر منه في 2008. وتعتمد هذه الأرقام كلياً تقريباً على تحركات أسعار الصرف. لكن من الصحيح والعادل تسليط الضوء على 2008 باعتباره نقطة تحول. وقبل ذلك العام، تمتع الاتحاد الأوروبي، باستثناء المملكة المتحدة، باقتصاد أكبر، لكنه أصغر حالياً بنحو 10 %.
لكن ثمّة فارقاً دقيقاً وراء هذا التغير. ويعود غالب هذا الاختلاف، سواء قبل أو منذ 2008، إلى نمو سريع للتعداد السكاني في الولايات المتحدة. كما نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بنسبة 53 % بين عامي 1995 و2022 في الولايات المتحدة، مقابل 47 % في الاتحاد الأوروبي.
وإذا ما أخضعنا هذا لتحليل أعمق، لوجدنا أن الجانب الديموغرافي يلعب دوراً أكثر حسماً على نحو واضح. وظل نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد في سن العمل ثابتاً على نطاق واسع على كلا جانبي الأطلسي منذ 1995، ما يرجع جزئياً إلى اتسام أوروبا بسكان أكبر سناً، ويعود جزئياً أيضاً إلى أن السكان في القارة لا يُتوفون مبكراً مثلما كان الحال فيما سبق. ويتخطى معدل النمو الأوروبي نظيره في الولايات المتحدة، إذ ينمو بنسبة 56 % مقابل 54 %. وبالطبع، تقل معدلات الناتج المحلي الإجمالي الأوروبية لمن هم في سن العمل، لكن هذا يعكس خيارات التمتع بعطلات أطول والتقاعد المبكر والعمل لساعات أقل.
وقبل أن يبتهج الأوروبيون بمباهج حياتهم، يجدر القول إن هذه ليست نهاية القصة. يعود السبب الرئيس وراء استقرار الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي وبالاتحاد الأوروبي للفرد في سن العمل، إلى عاملين. فقد ارتفعت معدلات التوظيف الأوروبية من نحو 60 % لمن هم في سن العمل في 1995 إلى معدل قريب أو ربما أعلى من المعدل التقليدي في الولايات المتحدة الذي يزيد على 70 %. لكن يقابل ارتفاع معدل التوظيف الأوروبي تحسن أبطأ في الإنتاج لكل شخص عامل وبكل ساعة عمل. وتتمتع أوروبا بعدد أكبر من الأشخاص العاملين في الوقت الراهن مقارنة بما سبق، لكنهم ليسوا منتجين كثيراً، وستعاني القارة بسبب مواصلة تعزيز معدلات التوظيف إلى الأبد.
ويتمثل جزء من كيفية إصلاح بطء النمو الأوروبي في تحسين إنتاجية العاملين ورأس المال. وعالجت إيزابيل شنابل، عضوة اللجنة التنفيذية في المركزي الأوروبي، هذا العنصر على نحو جيد في الكلمة التي ألقتها الأسبوع الماضي.
فقد تحدثت شنابل عن ضرورة اعتماد تحسين نمو الإنتاجية في أوروبا على إدارة أفضل للشركات في بيئة أعمال أكثر ديناميكية. ودعت شنابل الحكومات، على وجه الخصوص، إلى شحذ البيئة التنافسية، والسماح بتأسيس وإلغاء مزيد من الشركات الأوروبية، وزيادة التكامل بالاتحاد الأوروبي لتوسيع حجم السوق الفعالة، إلى جانب تطويع أكثر فاعلية للاستثمارات العامة. وقد أصابت بالفعل في كل ما قالته.
وثمّة عنصر رابع فيما يختص ببيئة الأعمال، لكن أغفلته شنابل. ويتمثل ذلك في خلق بيئة اقتصاد كلي داعمة للنمو وتحسن الإنتاجية. وإيجازاً، يمكن لاقتصاد الاتحاد الأوروبي الجامد أن يستفيد من النمو على نحو أكبر مما يسمح به المصرف المركزي الأوروبي حالياً.
وبرفعه أسعار الفائدة من -0.5 % في صيف 2022 إلى 4 % اليوم، فرض المركزي الأوروبي ضغطاً كبيراً على الاقتصاد الأوروبي، وهو ضغط مُصمم لعالم يتحتم فيه على الاتحاد الأوروبي تقبّل أن ابتعاده عن النفط والغاز الروسيين جعله أكثر فقراً، وقبول العمالة بتخفيضات أكبر للأجور الحقيقية، وتقبل الشركات أيضاً لوجود حدود على ربحيتها. لكن هذه الأيام المظلمة قد ولت، فقد انخفضت أسعار الواردات على نحو حاد، وتعافت معدلات التبادل التجاري تقريباً. وأياً كان وضع السياسة النقدية اللازم لخفض التضخم، فهو يسجل معدلات أقل اليوم.
لقد سجل السعر الفوري للغاز بالجملة 24 يورو للميغاواط في الساعة، الثلاثاء. وتقل الأسعار المستقبلية للشتاء التالي عن 29 يورو للميغاواط في الساعة، أي أنه يسجل مستويات أقل من المُسجل عشية اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا منذ عامين. وتشير تقديرات هولغر شميدينغ، كبير خبراء الاقتصاد لدى بنك «بيرنبرغ»، إلى أن فاتورة واردات منطقة اليورو من الوقود الأحفوري لهذا العام ستتخطى بالكاد المستويات المُسجلة في 2019. ويعني هذا تماشي تعافي الأجور الحقيقية والإنفاق تماماً مع تضخم مستقر في أرجاء منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي الأوسع.
لم أكن قط من المدافعين عن السماح بنمو الاقتصاد على نحو مفرط لمعرفة ما إن كان سينعكس ذلك على تصاعد نمو الإنتاجية، لكن ليس ثمة أي وقت أكثر مناسبة من الوقت الراهن لمثل هذه التجربة. ليس هناك من مبرر لمواصلة الضغط على الاقتصاد في ربوع الاتحاد الأوروبي حالياً، فقد تغير واقع الطاقة.
إن الاقتصاد الأوروبي يستحق هدنة، وأن يستهل العام على انطلاقة تعزز النمو، بجانب عودة التضخم إلى طبيعته. كما يحتاج صانعو السياسة إلى تقبّل مسألة أن القارة أغنى مما كانوا يعتقدون، وأن استغلال هذا الانتعاش ضروري، لكنه ليس كافياً لتحسّن أداء الإنتاجية في أوروبا على المدى الأطول.