قبل عقدين من الزمان، دافع ستيف جوبز، مؤسس شركة أبل، عن مفهوم تنويع المهارات، ففي خطاب التخرج الذي ألقاه في جامعة ستانفورد، كشف جوبز، عن أنه وبعد تركه الدراسة الجامعية في شبابه، انخرط فجأة في فصل دراسي عن الخط الياباني. وقال: «في البداية، لم يكن لأي من هذا أمل في أي تطبيق عملي»، ولم يكن له بصفة خاصة علاقة بمجال علم الكمبيوتر، حيث عمل جوبز لاحقاً، لكن عندما أنشأ شركة أبل، مزج جوبز مهاراته الفنية هذه مع الحوسبة لتكون النتيجة تغييراً كبيراً لتصميم عالمنا الرقمي.
وأشار إلى أنه لا يمكنك ربط نقاط المهارات بالتطلع إلى الأمام، يمكنك فقط توصيلها بالنظر إلى الماضي، وحث الطلاب على إنشاء نقاط منفصلة ثم الثقة في أن هذه النقاط ستتصل بطريقة ما في مستقبلك.
هذه نصيحة مهنية حكيمة، فقد تدربت على الأنثروبولوجيا الثقافية، ولكن انتهى بي الأمر بالكتابة عن المالية والاقتصاد، ولكن لهذه المعرفة آثار على الاقتصاد الكلي أيضاً، لاسيما ونحن نواجه مفارقة رأس المال البشري في القرن الـ 21.
كذلك، نحن نعيش في عصر ذهبي للتوظيف، فقد كشفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذا الأسبوع، عن أن معدل البطالة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2023 هو الأدنى منذ بداية سجلاتها في عام 2001، ومع ذلك فإن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذا المعدل المنخفض للبطالة يقترن بقلق عميق لدى المستهلكين بشأن المستقبل، خاصة في الولايات المتحدة، وقد يعكس ذلك السياسات الحزبية، أو صدى الوسائل الإعلامية، أو كليهما، ومع ذلك، ثمّة سبب آخر، وهو التغير التكنولوجي.
وتشير دراسة حديثة للمنتدى الاقتصادي العالمي، إلى أن ظهور الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى تغيير هيكلي في سوق العمل يطال نحو 23% من الوظائف في السنوات الخمس المقبلة، ما سيؤدي إلى إلغاء مئات الملايين من الوظائف. ويؤكد المنتدى الاقتصادي العالمي، أن الذكاء الاصطناعي سيخلق في الوقت نفسه ملايين الوظائف الجديدة. لكن «التغيير» يبدو مخيفاً للناخبين وصناع السياسات، ولهذا السبب فإن ذلك الخطاب لجوبز يبدو مهماً أكثر من أي وقت مضى.
وفي القرن العشرين، كان الافتراض في معظم المجالات التعليمية والمهنية، أن التخصص جيد، لذلك، اعتاد الطلاب في جامعات المملكة المتحدة على دراسة تخصص واحد، على عكس القرون السابقة. وحتى في النظام الأمريكي الأكثر مرونة، يختار معظم طلاب الدرجة الأولى تخصصاً واحداً بعد عامهم الثاني.
لكن أصبح من المألوف الآن بين خبراء الإدارة، الإشادة بفوائد المهارات المتعددة، إذ يخلق ذلك «مرونة معرفية»، على حد قول راند سبيرو، أستاذ علم النفس التربوي. وفي عام 2016، كان نحو 20% من الطلاب الأمريكيين يحصلون على تخصصات مزدوجة، وفقاً لتحليل أجرته أليسون ديل روسي، وجوني هيرش، وهو الرقم الذي تشير التقارير إلى ارتفاعه.
وتتبع نتائج هذا الجزء المتنامي من المجموعة أمر مثير للتفكير، ففي عام 2008، قارن فريق من الاقتصاديين مسارات أرباح الطلاب ذوي التخصصات الفردية والمزدوجة ووجدوا اختلافاً ضئيلاً بين طلاب العلوم ذوي التخصصات الفردية، والتخصصات المزدوجة ذات الصلة الوثيقة.
في المقابل، يحصل الخريجون الذين يجمعون بين تخصص في الفنون أو الآداب أو العلوم الاجتماعية وتخصص في إدارة الأعمال أو الهندسة أو العلوم أو الرياضيات على عوائد أعلى بنسبة 7 إلى 50% من أصحاب التخصصات الفردية.
وأشارت دراسة منفصلة أجرتها مجلة «كولومبيا إيكونوميك ريفيو» عام 2021 أيضاً، إلى أن متابعة تخصص ثانٍ في كل حالة تقريباً تنبئ بأرباح أكبر من متابعة أحد التخصصين بمفرده. وخلال الشهر الماضي، نشر المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية، الدراسة الأكثر شمولاً وإثارة للانتباه حتى الآن، والتي خلصت إلى أن حاملي التخصصات المزدوجة يتمتعون بحماية كبيرة ضد صدمات الدخل، بمتوسط تفضيلي يبلغ 56%.
وتكون الفائدة أكثر وضوحاً مع التخصصات غير المترابطة، قد يشير أحد المتشائمين، إلى أن الطلاب الذين يختارون التخصصات المزدوجة هم ببساطة أكثر موهبة أو ريادية أو امتيازاً في المقام الأول، لكن الاقتصاديين اختبروا هذه التفسيرات ورفضوها، وبدلاً من ذلك، يستشهدون بمفهوم يُطبق عادة على رأس المال المالي وليس البشري- وهو تنويع المحفظة.
ويؤكد علماء الاقتصاد، أنه يمكن للطلاب ذوي التخصصات المزدوجة الانتقال بسهولة أكبر بين المجالات المهنية إذا اختفت الوظائف في مجال واحد، أي أن تنويع رأس المال البشري يوفر الحماية من صدمات سوق العمل. علاوة على ذلك، فإن حاملي التخصصات المزدوجة أكثر حظاً للعمل في وظائف تتطلب مجموعة متنوعة من المهارات والمعرفة، وأقل عرضة للعمل في المهن التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتخصصاتهم، لذلك، تعد المرونة المعرفية مهمة.
بالطبع، هذه الدراسات تغطي نخبة صغيرة فقط، لكن لديها ثلاثة آثار واسعة النطاق. أولاً يحتاج صناع السياسات والتربويون إلى تعزيز دراسات أكثر تنوعاً، ليس فقط في الجامعة، ولكن أيضاً في المدرسة وفي مراحل لاحقة من الحياة، لذلك، الهوس الحالي بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات غير كافٍ.
ثانياً، إذا أراد أي شخص الدفاع عن قيمة الفنون والآداب، فمن المحتمل أن يفوز بدعم سياسي أكبر من خلال الحديث عن التخصصات المزدوجة وليس الفردية، وهذا أمر مهم بالنظر إلى أن العلوم الإنسانية تتعرض للهجوم.
ثالثاً، يجب أن تقدم نصيحة جوبز بعض الراحة للعمال القلقين وسط تطور الذكاء الاصطناعي، ففي نهاية المطاف، فإن القدرة على ربط النقاط التي تبدو غير متصلة هي سمة أساسية لكوننا بشراً ولا تزال حتى الآن تفصلنا وتميزنا عن الروبوتات.
بعبارة أخرى، لم يسبق لأي روبوت ترك الدراسة الجامعية ليأخذ دروساً في فن الخط قبل دراسة علوم الكمبيوتر.. فكر في ذلك عندما ترى منتجات أبل في المرة القادمة.