تساءلت الأسبوع الماضي عما إذا كانت السياسة الأمريكية ما زالت متعلقة بـ«الاقتصاد»، وسلطت الضوء على عدم التوافق بين النمو القوي للأجور الحقيقية في الفئات الأقل أجراً من ناحية، وضعف المعنويات الاقتصادية ودعم الرئيس جو بايدن من ناحية أخرى. ومنذ ذلك الوقت راسلني جيمس ماكينتوش، الكاتب والصحفي الاقتصادي، ليشير إلى أن الفئات الأكثر فقراً تنفق المزيد من أموالها على الغذاء والإيجارات، التي ارتفعت تكاليفها أكثر من أسعار المستهلكين الإجمالية. ويظهر استخدام معدلات التضخم لمجموعات الدخل على وجه التحديد ارتفاعاً أقل للأجور الحقيقية مقارنة بما كشفته البيانات الأسبوع الماضي.
في السياق نفسه تعود بنا ورقة بحثية جديدة، شارك لورانس سومرز، وزير الخزانة الأمريكي السابق، في تأليفها إلى جدل قديم، حيث تشير إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة في حد ذاته هو جزء من تكلفة المعيشة. وكشف الباحثون أنه إذا استخدمنا مقاييس تضخم بديلة تتضمن تكاليف الاقتراض بشكل أفضل فإن استياء المستهلكين سيكون أكثر قابلية للفهم، كما أن الانكشاف على الفوائد المرتفعة قد يتباين أيضاً حسب مستوى الدخل.
والتساؤل الذي تثيره مثل هذه المشاهدات يعد صعباً، فما هي معدلات التضخم التي يجب على السياسة النقدية الإبقاء عليها منخفضة ومستقرة؟ ويجب أن تعتمد إجابة هذا السؤال عن سبب اهتمامنا بالتضخم في المقام الأول، ولكن هذا سؤال لمقال آخر، لأنني ألقي اليوم نظرة على قضية أخرى، لأن تحليل البيانات الإجمالية يعد مهماً للغاية في كيفية التفكير في الاستنتاجات الخاصة بتباين الإنتاجية على جانبي الأطلسي.
وكان الأداء الاقتصادي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أفضل كثيراً من المتوقع في التعافي من الجائحة، رغم أزمة الطاقة والمخاطر الجيوسياسية والتشديد النقدي، لكن إنجازاتهما كانت مختلفة تماماً. في الولايات المتحدة تقدم النمو الإجمالي، لكن معدل مشاركة القوى العاملة لم يتعافَ إلى مستويات ما قبل الجائحة، لأن الارتفاع في أرقام الوظائف الخام يعود إلى النمو السكاني، أما في الاتحاد الأوروبي فسجل معدل التوظيف مستويات قياسية، بما في ذلك البلدان التي غالبا ما ينظر إليها على أنها فاشلة بشكل مزمن في حث الناس على العمل، إلا أن النمو أصابه الجمود.
هذه العوامل مجتمعة تصف التباين في الإنتاجية، الذي نما في الولايات المتحدة بشكل أسرع من الاتحاد الأوروبي، لماذا حدث هذا؟ مدخل الإجابة من كيفية الحكم على الاختيارات السياسية على جانبي الأطلسي، على وجه الخصوص التحفيز المالي الأكبر بكثير من جانب واشنطن، والإنفاق المستمر بالاستدانة، فضلاً عن تسامحها مع ارتفاع معدلات البطالة خلال الجائحة، إلى جانب إعانات بطالة كانت مرتفعة بشكل تاريخي. هذا مقابل التفضيل الأوروبي لدعم برامج الإجازات المؤقتة التي حافظت على علاقات العمل، لكن كي نكون في وضع يسمح لنا بالتساؤل من الأفضل لنا أن ننظر أولاً في معجزة الإنتاجية الأمريكية الصغيرة. يصدر مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي بيانات فصلية لإنتاجية العمالة، تكشف الناتج الحقيقي لكل ساعة عمل في القطاعات الاقتصادية الرئيسية.
وتسلط هذه البيانات الضوء على ارتفاع الناتج الحقيقي لكل ساعة عمل في القطاع غير الزراعي بنسبة 6.4% خلال الأعوام الأربعة منذ نهاية 2019 وازدياد التوظيف بنسبة 4%.
وانخفض متوسط ساعات العمل 1.3%، مقابل توسع إجمالي الإنتاج 9.2%، لتزداد إنتاجية كل عامل بنحو 5%.
كم من هذا يعود إلى التصنيع، وهو القطاع الذي يحصل على الكثير من الانتباه؟ توظف المصانع 10% من إجمالي قطاع الشركات غير الزراعية فقط، لذا فهي بحاجة إلى نمو هائل في الإنتاجية للتأثير على المؤشر الإجمالي، لكن في واقع الأمر لم يكن للتصنيع قصة نجاح في تعافي ما بعد الجائحة، فلم تزدد إنتاجية العمال في القطاع إلا بنسبة 0.9% خلال أربعة أعوام، وحتى هذه المكاسب الضئيلة قابلها انخفاض مجموع ساعات العمل.
إذن، يبدو أن السر يكمن إلى حد كبير فيما شهده قطاع الخدمات، لكن من الصعب إيجاد بيانات دقيقة وحديثة عن الإنتاج في كل ساعة عمل للقطاعات الأصغر، لكن يمكننا أن نجمع بين بيانات القيمة المضافة الحقيقية الأكثر. تفصيلا على مستوى القطاع (حتى الربع الثالث من 2023) وأرقام التوظيف على مستوى القطاع لقياس الناتج لكل عامل (وليس في كل ساعة) في السنوات الأربع حتى سبتمبر 2023. إلى أي مدى تعود طفرة الإنتاجية إلى إعادة التوزيع من القطاعات الأقل إنتاجية للأكثر إنتاجية، كما كان يأمل الكثير منا أن يحفزها «الاستقالة العظمى». اتضح أنه ليس كثيراً، على الأقل فيما يتعلق بالتحولات بين القطاعات الكبيرة.
ففي حين كانت هناك حركة طفيفة نحو التوظيف في قطاع الأنشطة المالية ذات الإنتاجية العالية، كان هناك أيضا تحولات إلى قطاعات ذات الإنتاج الأقل من المتوسط لكل عامل، مثل الخدمات التعليمية والصحية. رغم ذلك، تعزز إجمالي إنتاج كل عامل بالتحولات من القطاعات منخفضة الإنتاجية، مثل تجارة التجزئة والترفيه والضيافة. لكن لم يكن من المفيد أن تنخفض حصص العمالة أيضا في القطاعات ذات الإنتاجية فوق المتوسط مثل التصنيع، وارتفاعها في القطاعات ذات الإنتاجية الأقل من المتوسط مثل البناء.
بناءً على تقديري السريع، لم تؤد هذه التحولات القطاعية إلا إلى زيادة الإنتاجية لكل عامل بنسبة ربع بالمائة تقريبًا. إذا، وعلى مستوى القطاعات الواسعة، لم تتحقق الآمال في إعادة توزيع تعزز الإنتاجية. كن هذا لا يخبرنا إلا القليل عن إعادة التوزيع بين الشركات في نفس القطاع، وبين القطاعات الفرعية، لذلك لا يزال الحكم معلقا. ربما يكون قراء «غداء مجاني» قد توصلوا بالفعل إلى أرقام أكثر تفصيلا، أرسلوا أي بحث في طريقي.
حدثت أكبر قفزات الإنتاجية في خدمات المعلومات، مثل الإعلام والاتصالات ومعالجة البيانات والخدمات المهنية، حيث قفزت القيمة المضافة الحقيقة لكل عامل بنسبة 30 و15% على التوالي.
وحافظت معظم قطاعات الخدمات الأخرى إلى حد كبير على معدل نمو الإنتاجية الكلية، مع استثناءات كبيرة في تجارة الجملة والنقل والتخزين. وبطبيعة الحال، كانت هذه القطاعات هي التي مضت في توظيف العمالة في ظل طفرة التوصيل إلى المنازل، ومن الواضح أنها كافحت لتشغيل عمالها الجدد بشكل منتج.
وبطبيعة الحال، قد لا يكون القطاع الذي حقق أسرع نمو في إنتاجية كل عامل هو القطاع الذي حقق أكبر نمو في الإنتاجية الإجمالية إذا لم يكن القطاع كبيرا جدا، وتعد خدمات المعلومات مثالا على ذلك، لأنها توظف أقل من 2% من العمال.
الصورة لا لبس فيها، حدثت طفرة الإنتاجية في الصناعات التي تعتمد على المعرفة بكثافة، مثل الخدمات المهنية والتجارية، والتعليم والصحة وخدمات المعلومات. هذه القطاعات بطبيعة الحال هي التي كان يمكنها استغلال تقنيات العمل عن بعد بكل سهولة. ويبدو أيضا أنهم هم الذين أضافوا بشكل أكبر إلى مخزون رأسمالهم المادي. إذا، الاستثمار يعمل والأسواق تستجيب للطلب. من كان يظن ذلك؟.