لم يعتد نشطاء البيئة توجيه هجماتهم صوب المحاسبين. ولا عجب في ذلك، فعمل المحاسبين يبدو مملاً، مقارنة بعمل المنقبين عن النفط أو المصرفيين.
ومع ذلك، وجدت مؤسسة المعايير الدولية للتقارير المالية، وهي مؤسسة محاسبة عالمية قوية، وجدت نفسها تعيش تجربة هي «الأولى من نوعها»، إذ اقتحم محتجون اجتماعاً لها في نيويورك، بينما كان بريان موينيهان الرئيس التنفيذي لـ «بنك أوف أمريكا»، يدلي برأيه في قواعد التدقيق الأخضر. نعم، لقد حدث ذلك بالفعل.
وفي حين كان هذا الحدث على وجه الخصوص قصير الأمد، لكنه يسلّط الضوء على معركة أوسع، تدور رحاها في الوقت الراهن في ميدان مجالس إدارة الشركات. وحتى رغم شجب ساسة يمينيين، أمثال دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق، لنشطاء «الووك»، بيد أن بعض الجهات التنظيمية تشدد قواعد التقارير المالية المراعية للبيئة. ويطرح ذلك تحديات أمام المسؤولين التنفيذيين، مثل موينيهان. لكن الأمر يسلّط الضوء أيضاً على نقطة كثيراً ما يتم تجاهلها بشأن عالم القرن الحادي والعشرين، فالعولمة ليست مرادفة «للسباق نحو الهاوية» وتخفيف اللوائح، مع امتداد كبرى الشركات عبر الحدود.
وعلى النقيض، فالمسألة في عالم التدقيق الأخضر، أقرب ما تكون إلى «ضغط تنظيمي حتى المناصب العليا» في الوقت الراهن. وعند إعلان إصلاحات في منطقة ما، فهي تنتقل إلى مناطق أخرى بطريقة مفاجئة، وتهدد بالتأثير في الشركات غير الحذرة.
ومن أجل فهم ذلك، فنحن بحاجة لقراءة في التاريخ. فقد برزت إلى السطح في العقود الأخيرة أطر عمل كثيرة، لتمكين الشركات من الإفصاح عن مدى تأثيرها في البيئة، ومن بينها المبادرة العالمية للتقارير، وفرقة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ، ومجلس معايير المحاسبة المُستدامة، وكان آخرها مبادرة شاملة، تُدعى مجلس معايير الاستدامة الدولية.
وقد رحب الكثير من الشركات بمجلس معايير الاستدامة الدولية عند تأسيسه منذ عامين، وقد وُصِفَ حينها بأنه نظام طوعي، يعمل على إدخال بعض التسهيلات التي تشتد الحاجة لها. ومع ذلك، ترغب جهات تنظيمية حالياً ببلدان مثل المملكة المتحدة وأستراليا، في إضفاء الإلزامية على بعض من معايير المجلس.
كما يقوم الاتحاد الأوروبي حالياً على إدخال توجيه جديد أكثر صرامة لإصدار تقارير الشركات. وهو يتطلب إفصاحاً عن الانبعاثات الناجمة عن العمليات الأساسية للشركات ومورديها للطاقة، ما يُعرف باسم «النطاق 1» و«النطاق 2»، وكذلك إفصاحات عن سلاسل التوريد الأوسع، ويُطلق عليها تقارير «النطاق 3».
وبالنظر إلى إفصاح بضعة شركات فقط عن هذه التفاصيل حالياً، فإن التوجيه الجديد «سيوسّع على نحو كبير المجال أمام الإفصاح عن المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة المطلوبة منا»، بحسب «غولدمان ساكس»، وهي التعليقات التي تردد صدى معنويات سائدة حالياً على نطاق واسع.
من المُتوقع إعلان هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، قواعدها الخاصة. ومن غير المفاجئ مناشدة مجموعات، مثل غرفة التجارة، الهيئة، بأن تتفادي تبني النهج ذاته الخاص بالاتحاد الأوروبي. وثمة ذعر على وجه الخصوص من قواعد «النطاق 3»، في ظل شكاوى المسؤولين التنفيذيين من أن البيانات عن سلاسل التوريد غالباً ما تكون ضعيفة. وهم محقون في ذلك، على الأقل حالياً.
وقد أتت جهود الضغوط بثمارها جزئياً، إذ تفيد تقارير بأن غاري غينسلر رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، نحّى جانباً قواعد «النطاق 3» من إطار العمل المُرتقب، لكنه يخشى الخسارة بسببها في أروقة المحاكم.
وقد يشي هذا بانقسام في ما يتعلق بالتدقيق في الحسابات مستقبلاً على جانبي الأطلسي. ووقّع غافن نيوسوم، حاكم ولاية كاليفورنيا، قانوناً يلزم كافة الشركات التي تجني إيرادات سنوية تفوق 500 مليون دولار، بإصدار تقارير مناخية شاملة بحلول 2026، ويقضي القانون أيضاً بإفصاح الشركات التي تزيد إيراداتها السنوية عن مليار دولار، عن تقارير «النطاق 3» بحلول 2027.
وبما أن غالبية كبرى الشركات الأمريكية موجودة في ولاية كاليفورنيا، فمن شأن هذه الشبكة أن تضم في طياتها 8.000 شركة، وفقاً لتقديرات «كرانش بيس». وبالتالي، فقد فاق نيوسوم في جهوده، غينسلر، بل حتى الرئيس الأمريكي المقبل.
ويسوقنا هذا إلى أربعة تداعيات على الأقل. أولها، أنه سيؤدي بمسؤولين تنفيذيين، مثل موينيهان، إلى المضي بحذر على حبل سياسي مشدود، بما أن الولايات «الحمراء» و«الزرقاء»، تتبنى سياسات متضادة من حيث المعايير المناخية.
ثانياً، يتعين على كبرى الشركات إعداد أنظمة التقارير الداخلية الخاصة بها سراً، لكي تجابه القواعد الصارمة، بما في ذلك «النطاق 3»، بغض النظر عما قد تفصح عنه علانية. وتجدر الإشارة هنا إلى التكلفة الباهظة للعمل بأنظمة مختلفة في مناطق مختلفة. وأخبرت مجموعة دينتون القانونية عملاءها مؤخراً، بوجوب «الاستعداد لتتبع انبعاثات النطاقات 1 و2 و3، والمخاطر ذات الصلة بالمناخ، وكذلك التدابير المخففة في موعد قد لا يتعدى 2025». وتُعد «والمارت» خير مثال على ذلك، إذ تعمل على إعداد تقارير «النطاق 3»، على الرغم من وقوع مقرها في ولاية أركنساس، التي يهيمن عليها الجمهوريون.
وثالثاً، تنشأ مجموعة جديدة من الخدمات القانونية ولإعداد التقارير والبيانات، مع سبر مجالس الإدارة أغوار هذه المتاهة. ويُعد هذا تطوراً مُرحّباً به، لأنه سيجعل من بيانات «النطاق 3»، أكثر مصداقية في نهاية المطاف.
ويذهب بنا هذا إلى النقطة الرابعة، ففي حين يميل النشطاء البيئيون إلى كراهية العولمة، لكن هذه الظاهرة تدعم قضيتهم، مع تردد صدى الإصلاحات عبر الحدود.
لقد شهدنا هذا النمط من قبل. فقد اضطر مصنعو السيارات الألمان إلى تغيير أنظمتهم، بعدما شددت ولاية كاليفورنيا قواعدها التنظيمية ذات الصلة بالانبعاثات قبل عقد، وهو ما لم يقتصر على الولاية فحسب، بل إنها غيّرت أنظمتها في السوق المحلية أيضاً. كما اضطر عمالقة التكنولوجيا بالولايات المتحدة، إلى تغيير ممارساتهم داخل البلاد، بعدما تبنت بروكسل قواعد إعداد التقارير العالمية لحماية البيانات في 2016.
إن ما يجعل التدقيق الأخضر ملحمة رائعة، هو تأثيرها في قطاع أوسع من الشركات. وفي حين تقاضي مجموعات صناعية نيوسوم لوقف العمل بقواعد «النطاق 3»، لكن سيكون من الخطأ لأي مجلس إدارة أن يظن بأنه سيفوز، حتى وإن فاز ترامب بالانتخابات الرئاسية. وهنا، تبرز قوة الفيدرالية الأمريكية.
وهكذا، يتعين الآن على عالم المحاسبين غير الممل التأهب للكثير من الاحتجاجات.