اتبعت موازنة المملكة المتحدة، التي قدمها وزير المالية جيريمي هانت، الخطوات المعتادة التي تم التدرب عليها جيداً.

ترسل الحكومة خططها السياسية إلى مكتب مسؤولية الموازنة المستقل، الذي يتنبأ بكيفية قياس موارد المالية العامة وفقاً لمجموعة قواعد مالية وضعتها الحكومة نفسها.

وتصبح النتيجة أداة سياسية تمثل «حيز التصرف»: أي مقدار الاقتراض العام الذي يمكن أن يرتفع من دون تجاوز الخط الذي يقرر حدود المسؤولية المالية.

ويجب على الحكومة والمعارضة على حد سواء الأخذ في الاعتبار كيفية البقاء على الجانب الصحيح من الخط، مع الوفاء بعروضهم السياسية للناخبين.

ويشجع ذلك على الألعاب المالية الغامضة والخاطئة لـ «العثور على المال للسياسات المرغوب فيها دون إعادة ترتيب أولويات الموارد الحقيقية».

وهو يهدد أيضاً بالجمود الديمقراطي، إذ يرفع الثمن السياسي المتمثل في تقديم أي شيء جوهري للناخبين ويقوض النقاش الجدي حول احتياجات الاقتصاد.

في أي نظام اقتصادي واع، فإن (ما يطلق عليه) المسؤولية المالية لا بد أن يسير جنباً إلى جنب مع نمو قوي ومستدام..

لكن إنشاء قواعد مالية تخلق مقايضة سياسية بين شخص ما والآخر هو أمر ضار، وقد يكون التأثير قوياً بشكل خاص في المملكة المتحدة، وإن كان موجوداً أيضاً في أماكن أخرى.

يمكن أن يؤدي العرف المتبع بالولايات المتحدة في «تسجيل» الميزانية لمدة 10 سنوات إلى تقييم السياسة على افتراض أنه سيتم عكسها في السنة العاشرة. أما قواعد المالية العامة للاتحاد الأوروبي، التي تم إصلاحها الآن.

فقد حفزت في الماضي سياسة مواجهة التقلبات الدورية، ما أدى إلى تعميق فترات الركود بعد الأزمة المالية العالمية، وبالتالي مفاقمة أعباء الدين العام بشكل هدام. ووقعت استراتيجية الاستثمار الأخضر بأكملها في ألمانيا في حالة من الفوضى في نوفمبر، عندما ألغت المحكمة الدستورية خدعة شائعة يستخدمها الساسة الألمان بشكل شائع:

وهي إنشاء «صناديق وهمية» عندما يتم تعليق قواعد العجز المالي القومي لأسباب طارئة، والتي يمكنها لاحقاً الاقتراض بحرية من خارج الميزانية الرئيسية.

وقد رفضت المحكمة أحدها وكان مثالاً فظيعاً بالفعل، لكن السياسيين نصبوا واحداً آخر (للإنفاق الدفاعي) في الدستور. بعض الصناديق الأخرى لا يلتفت إليها أحد.

وهذه كلها حالات لقواعد مالية تشجع على سياسة اقتصادية مخادعة أو سيئة، أو كلتيهما. لكن ماذا يمكن أن يقال في صالح قواعد المالية العامة؟

في الواقع إنها يمكن أن تخدم ثلاث وظائف مهمة: إبقاء الساسة جديرين بالثقة من خلال الكشف عن الآثار المترتبة على اختياراتهم، وتشجيع سياسة مالية أفضل، وجعل العملية أكثر عقلانية عن طريق استبدال الاحتكاكات السياسية بالحسابات الهادئة.

ومن الناحية العملية، فإن محاولة فرض النزاهة على السياسيين الذين يميلون بالفعل إلى عدم الصدق، تشجعهم ببساطة على الالتفاف على القواعد، خاصة عندما تكون مصممة بشكل سيئ. ولنأخذ على سبيل المثال قاعدة الدين العام في المملكة المتحدة، التي يتم تعريفها على أساس «متجدد» لمدة خمس سنوات، يعتمد الوفاء بها فقط على ما تقول الحكومة اليوم إنها ستفعله في المستقبل، وليس على ما تفعله بالفعل.

أمّا بالنسبة إلى السياسة المالية الأفضل، فقد ظهرت قواعد اليوم كحلّ لمشكلة قديمة: الارتفاع العام في الدين العام في ثمانينيات القرن العشرين.

والذي ألقي باللوم فيه على رغبة الساسة في سرقة أجيال المستقبل وتحفيز الاقتصاد قبل الانتخابات. فهل لا يزال هذا هو التحدي الأكبر؟ في العقد الذي سبق كوفيد 19، كانت المشكلة تكمن في خوف الحكومات الشديد من تحفيز اقتصاداتها.

ولا تزال ثمّة إغراءات لمسايرة الدورة الاقتصادية، ويشرح وزير المالية الفرنسي التخفيضات الجديدة في الإنفاق بقوله «عندما تكسب أقل، فإنك تنفق أقل»، متغاضياً عن المخاطر المتمثلة في أنك إذا أنفقت أقل على الأشياء المهمة، فمن الممكن أن تكسب أقل أيضاً.

واليوم، أصبحت مخاطر الاستثمار العام الضئيل للغاية - في نمو قوي، والتحول الأخضر والتحول الرقمي، وفي الدفاع - لا تقل خطورة عن الدين العام المرتفع.

لا يوجد ما يشير إلى أن قواعد المالية العامة تساعد على تجنب هذا الخطأ، وتحسباً لها، حاول الاتحاد الأوروبي أن يقدم أداء أفضل في القواعد التي تم إصلاحها حديثاً، وتتطلب هذه القواعد الالتزام بخطط إنفاق لمدة أربع إلى سبع سنوات. وهذا من شأنه التقليل من الحافز للالتفاف على النظام.

وعلى الأقل تتمتع بنية الاتحاد الأوروبي متعددة البلدان بضوابط وموازين مستقلة حقاً لا يمكن للنظام الوطني البحت ضمانها بشكل كامل، إذ يمكن للحكومات أن تغير قواعدها المالية الخاصة بها، وهي تفعل ذلك بالفعل.

وبالنسبة للهدف الثالث، ربما كان من الخطأ دائماً محاولة نزع الطابع السياسي عن عملية إعداد الموازنة، هناك الكثير من القواعد لإصلاح السياسات المعطوبة؛ في المقابل فإن هذه القواعد لا تضيف الكثير إلى البلدان التي لديها سياسيون نزيهون على استعداد لتحقيق المصلحة المشتركة.

إن الجانب الواعد في إصلاحات الاتحاد الأوروبي يتلخص في الأخذ والعطاء السياسي الجديد الذي يشجعه هذا الإصلاح بين البلدان ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، إن أفضل ما يمكن أن نأمله من قواعد المالية ليس التحايل على سياسات الميزانية المختلة، ولكن مساعدتها على التطور إلى شيء أفضل.