ما الذي يمكن عمله لخفض التضخم؟ هذا هو السؤال الذي يطارد محافظي البنوك المركزية في الوقت الراهن، نظراً إلى الاتجاه «المخيب للآمال» لبيانات أسعار المستهلك في الولايات المتحدة، بين أماكن أخرى في العالم.
الأمر أيضاً يثير قلق الساسة، مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن، على خلفية زيادة استياء الناخبين بشأن الاقتصاد. ويشعر المستثمرون بعدم الارتياح أيضاً، فوصل سعر الذهب إلى مستويات قياسية، وسط البحث عن تحوط من التضخم.
ويحفز هذا بدوره بعض الاستجابات السياسية الكلاسيكية. فمن ناحية، يتعهد الاحتياطي الفيدرالي بتثبيت الفائدة عند مستويات مرتفعة؛ كبحاً للطلب. ومن الناحية المقابلة، يهاجم بايدن الشركات الكبرى بسبب ادعائه أنها «تتحايل لرفع الأسعار» وتتبنى ممارسات مخادعة مثل «الانكماش التضخمي» أو بيع قدر أقل من السلع بالسعر نفسه.
تجدر الإشارة هنا إلى خلاف غريب وقع مؤخراً بشأن حجم حلوى «سنيكرز». فقد أشار بايدن في خطاب حالة الاتحاد إلى أن حجمها تقلص، إلا أن شركة «مارس»، التي تنتج هذه الشوكولاته، تنفي هذا.
تثير حرب الكلمات تلك نقاشات حية. لكن مع تفاقم الصداع الذي يواجهه بنك الاحتياطي الفيدرالي، ثمّة طريقة أفضل لتأطير هذه القضية، بتسليط الضوء على ما يطلق عليه الاقتصاديون «الحجب». ويُقصد بالمصطلح الطرق التي تقدم بها الأسعار للمستهلكين وإخفائها عنهم في الوقت نفسه، وهو ما تمت دراساته على نطاق واسع من خبراء الاقتصاد السلوكي.
على سبيل المثال، اشترك الراحل دانيال كانيمان في الثمانينيات مع عاموس تفيرسكي لاستكشاف «تقسيم الأسعار»، أو كيف تسعير الشركات أحياناً المنتجات على مراحل، ما يصعب على المستهلكين تقييم التكاليف بطريقة «عقلانية».
وتعد الغرف الفندقية أحد الأمثلة من قطاع الخدمات، فقد تحمل الرسوم الأولية المنخفضة رسوماً إضافية مرتفعة لاحقاً. والطابعات مثال آخر، إذ قد تتطلب الطابعة الرخيصة عبوات حبر باهظة الثمن، والتي لا يمكن توقع تكلفتها بسهولة مقدماً. وتشكل تكاليف الشحن مثالاً إضافياً على ذلك.
قد يتجاهل أي شخص ساخر هذه الأمور ويعتبرها مجرد سلوك معقول من شركات تسعى إلى تحقيق ربح. قد يكون الأمر كذلك. لكن شركات استشارات مثل «ديلويت» قدمت مشورة لعملائها في السنوات الأخيرة حول إلى أي مدى يمكن للشركات استغلال استراتيجية «حجب الأسعار» لزيادة هوامش أرباحها دون إثارة ردود فعل عنيف من المستهلكين. لكن مجرد استمرار اللجوء لحجب الأسعار في 2024، بعد أربعة عقود من بدء كانيمان وآخرين دراستهم، يؤكد ثلاث نقاط مهمة.
أولاً: لا تؤدي المنافسة التجارية دائماً إلى الوصول للكفاءة الحقيقية، إذ يمكن للأسواق أن تفشل. ثانياً، ينشأ فشل السوق لأن المستهلكين ليسوا على هذا القدر من المعرفة الشمولية والعقلانية التي تفترضها النماذج الاقتصادية. فهم يعانون تحيزات إدراكية تؤدي بهم لاتخاذ قرارات سيئة تجعلهم غير مهيئين لإصدار أحكام عن التضخم.
ثالثاً، الرقمنة لا تستطيع بمفردها حل مشاكل المنافسة بطريقة سحرية. نعم، يمكن للرقمنة أن توفر مزيداً من الشفافية في الأسعار في بعض المجالات، مثل تذاكر الطيران. لكن الإنترنت يؤدي في بعض الأحيان إلى خلق قدر كبير من الحمل الزائد من المعلومات، ما قد يؤدي أيضاً إلى حجب المعلومات، خاصة عندما يكون المستهلكون منشغلين أو غير متعلمين بشكل جيد. وبطبيعة الحال، يمكن لوهم الشفافية على الإنترنت في حقيقة الأمر أن يفاقم عملية التعتيم.
وقياس تكلفة هذا الأمر صعبة، إلا أن فريقاً مختصاً في الرؤى السلوكية في لندن، توصل الشهر الماضي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي البريطاني كان أكبر بنسبة 0.2 إلى 1 %، (بين 5 مليارات إلى 23 مليار إسترليني)، لو لم يكن حجب الأسعار موجوداً.
وانتهى الفريق إلى هذه التقديرات بافتراض أن الشفافية الحقيقية ستتيح للمستهلكين شراء منتجات وخدمات من شركات أكثر فعالية، ما سيعزز إنتاجيتها. ومع ذلك، فحص الفريق مسألة أخرى مهمة، وهي أن الحكومة من بين أكبر ضحايا حجب الأسعار، بما أن المسؤولين الذين يديرون التوريدات الحكومية يعانون للحكم على التكلفة الحقيقية للخدمات التي يحصلون عليها.
وذهب الفريق إلى استفادة القطاعين العام والخاص من الفعالية والكفاءة على حد سواء، حال وجود سياسات مضادة للتستر. ويمكن أن يشمل ذلك تدابير تفرض مواصفات موحدة على المنتجات ودعم المواقع الإلكترونية التي تقارن الأسعار، فضلاً عن خدمات استشارية للمستهلكين وما إلى ذلك.
سينفر بعض خبراء الاقتصاد المؤيدين للسوق الحرة من هذه السياسات، وسيعتبرونها تدخلاً غير مبرر، لكن فريق الرؤى السلوكية أوضح أن مثل هذه التدابير من شأنها «تحسين كيفية عمل الأسواق وسيسفر عن إبداع وابتكار، ومساعدة الجمهور على اتخاذ قرارات أفضل لأنفسهم».
على أية حال، ينبغي لصانعي السياسات والمحللين الانتباه لهذا النوع من البحوث. ففي النهاية، ليس بايدن السياسي الوحيد الذي يعاني التضخم والتلاعب المزعوم بالأسعار، فقد أعرب دونالد ترامب، المُرشح الرئاسي الجمهوري المُحتمل، عن آراء مماثلة فيما سبق.
وهذا ليس مفاجئاً، لأن تقريع الشركات الكبرى غالباً ما يؤدي للفوز بالأصوات. ومع ذلك، فمن الأفضل لصانعي السياسة أن يجدوا سبلاً عملية لدعم شفافية التسعير، بدلاً من إرهاب المسؤولين التنفيذيين. تضر الأخيرة بالثقة، فيما قد تحسّن الأولى في حقيقة الأمر من التنافسية وأداء السوق بطرق من شأنها خفض الأسعار.
وبعبارة أخرى، إذا كانت ترغب واشنطن في فهم اتجاهات الأسعار، فهي بحاجة لوضع كتاب كانيمان في اعتبارها، وإدراك أن انحراف السلوك البشري سيظل قائماً حتى في العالم الرقمي.
قد لا يكون هذا كافياً لوضع حد لحروب «سنيكرز» هذه، لكنه سيؤدي على الأقل إلى تكوين رؤية اقتصادية أكثر انسجاماً مع الكيفية التي ينبغي للشركات والمستهلكين والمصوّتين أن يتصرفوا بها.