قبل أكثر من قرن بقليل، حذر جون مينارد كينز من مخاطر الرضا عن العولمة. في عام 1919، أشار كينز في كتابه «العواقب الاقتصادية للسلام» إلى أنه قبل الحرب العالمية الأولى، «كان بإمكان من يسكن لندن طلب المنتجات المختلفة من جميع أنحاء الأرض عبر الهاتف، وهو يحتسي شاي الصباح في الفراش، بالكمية التي يراها مناسبة، ويتوقعون بشكل منطقي تسليمها مبكراً إلى عتبة منزله».
وأضاف إنه (كان الاقتصاديون يفترضون حينئذ أن الفاعلين الاقتصاديين من الذكور) يمكنهم «المغامرة بثرواتهم في الموارد الطبيعية والمشاريع الجديدة في أي جهة من العالم»، وكذلك «ضمان وسائل نقل رخيصة ومريحة على الفور إلى أي بلد أو مناخ دون جواز سفر أو إجراءات أخرى» علاوة على ذلك، كانت هذه الحالة «طبيعية ومؤكدة ودائمة، باستثناء أن تتجه نحو مزيد من التحسن».
وهكذا، «لم تكن مشروعات وسياسات العسكرة والإمبريالية، والمنافسات العرقية والثقافية، والاحتكارات، والقيود، والإقصاء كانت مجرد تسلية في صحيفتك اليومية». بلغة إنجليزية بسيطة، اعتبر الناس أن العولمة كانت شيئاً مسلماً به تماماً، إلى درجة أنهم نادراً كانوا ما يفكرون فيها، وافترضوا أن حرية حركة الأشخاص والأموال والأغراض ستستمر إلى ما لا نهاية. وبدت الحرب أثراً من الماضي.
وبالتقدم سريعاً مدة قرن من الزمان، فقد يكون من المغري الضحك أو البكاء على واقع الأمور. فبعد كل شيء، وخلال الصراع الذي دار بين 1914 و1918، تهشم هذا الرضا المشرق بسبب الدمار الاقتصادي الهائل وإغلاق الحدود واضطرابات التجارة وتصدع سوق رأس المال.
وعادت العولمة إلى الوراء. علاوة على ذلك، تبع الحرب انهيار اقتصادي عام 1929 وكساد وحمائية تجارية في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم حرب عالمية أخرى. ورغم استئناف العولمة منتصف القرن العشرين، إلا أنه لم يكن إلا في نهاية القرن حتى عاد العالم إلى نوع العولمة الذي رصده كينز - أي عالم بدا فيه من الطبيعي تحريك السلع ورأس المال والأفكار إلى درجة أن معظم المراقبين افترضوا أن هذا سيستمر إلى الأبد، بل وسيتعمق. الفرق الكبير الوحيد بين عامي 2013 و1913 هو أنه في العصر الحديث، لا يتوقع أحد السفر عبر الحدود بدون جواز سفر أو إجراءات أخرى. فاليوم، هناك بالضرورة ضوابط بيروقراطية.
السؤال المخيف هنا هو هل سنشهد تكرار ما أتى كينز على ذكره، أي حقبة تسير فيها العولمة في الاتجاه المعاكس، وتطل النزاعات الجيوسياسية بوجهها من جديد. الإجابة هي «ليس كلية». ففي حين أن الخطاب السياسي في كثير من الدول صار شعبوياً وحمائياً وقومياً إلى حد مؤسف «فإن العولمة بعيدة من الموت».
واحتفاء بهذا، لنلق نظرة على الاستطلاع السنوي الذي أجرته مجموعة «دي إتش إل» للشحن وكلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك. فحص الاستطلاع العولمة من حيث أربعة مقاييس، وهي حركة الأشخاص، والمعلومات، والأموال والتجارة. وأظهرت النتائج الأخيرة الصادرة في مايو 2023 تراجع تحركات الناس مقارنة بأعوام قليلة سبقت، بسبب عدم تعافي السفر عند الجائحة.
ومع ذلك، فقد واصل تبادل المعلومات ازدياده في 2022، وإن كان بوتيرة أبطأ عن ذي قبل. وظلت تدفقات الأموال العابرة للحدود قوية على نحو معتدل، وتنامت تدفقات السلع والخدمات، وبذلك، ارتفعت التجارة العالمية بنسبة 10 % في 2022 مقارنة بالمستويات المُسجلة عام 2019 قبل الجائحة. ونتيجة لذلك، يواصل مؤشر العولمة الذي تصدر «دي إتش إل» وكلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك نتائجه، ارتفاعه طفيفاً.
وبحسب التقرير نفسه، استمر تبادل المعلومات في الارتفاع في عام 2022 (وإن كان بوتيرة أبطأ من ذي قبل)، بينما ظلت تدفقات الأموال عبر الحدود قوية إلى حد ما، وارتفعت بالفعل تدفقات السلع والخدمات - ما جعل التجارة العالمية أعلى بنسبة 10 % في عام 2022 مقارنة بعام 2019 قبل الجائحة. نتيجة لذلك، لا يزال مقياس العولمة الإجمالي، مرتفعاً قليلاً.
ورغم تراجع التجارة بين الولايات المتحدة والصين، إلا أنه لا يوجد «انقسام واسع النطاق للاقتصاد العالمي إلى كتل متنافسة» و«معظم تدفقات التجارة تتعارض مع التوقعات بالتحول من العولمة إلى الأقلمة» – خاصة أن سلاسل التوريد أصبحت أكثر تعقيداً.
ويعترف التقرير بأن هذه الصورة قد تكون مؤقتة لأن «مناخ السياسة العامة أصبح أقل ملاءمة للعولمة». ويحذر ستيفن ألتمان، الباحث الأكاديمي الكبير في كلية ستيرن، من «استنتاج أن المرونة الأخيرة للتدفقات الدولية أن العولمة لا يمكن أن تنقلب».
وحينما عقد صندوق النقد الدولي اجتماعه السنوي في مراكش بشهر أكتوبر 2023، تضمّن تقرير آفاق الاقتصاد العالمي ملمحاً جديداً مقبضاً، وهو قسم يحسب ما الذي قد يحدث إذا انزلق العالم في حرب باردة جديدة بين كتلتين اقتصاديتين جيوسياسيتين متنافسين لا تتاجران مع بعضهما بعضاً.
ولتقدير الأحداث، استخدم صندوق النقد الدولي نموذجاً يعتمد على التجمّع السياسي الذي ظهر في الأمم المتحدة عند التصويت على مشروع قرار يخص أوكرانيا في 2022، أي الكتل المؤيدة للغرب وغير المؤيدة له. وحسب تقديرات الصندوق، فإن نشوب حرب باردة سيخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي المستقبلي بما يصل إلى 7 % بسبب انحسار تدفقات التجارة والتمويل والمعلومات. ووضع خبراء اقتصاد آخرون نسبة أعلى من ذلك.
ويشدد صندوق النقد الدولي على أن مثل هذا السيناريو هو سيناريو نظري ويأمل، من خلال إظهاره لصانعي السياسات والناخبين مدى حماقة ترك العولمة تندثر، ضمان عدم حدوث ذلك أبداً. ومع ذلك، فإن حقيقة نشر الصندوق لهذا التمرين «النظري» تُظهر كيف تغير العالم: فقبل عقد من الزمان، في عام 2013، كانت فكرة أن العولمة قد تنقلب إلى عكس اتجاهها غريبة كما كانت في عام 1913.