هناك أسباب وجيهة تدعو إلى افتراض أن آخر تطورات التضخم في الولايات المتحدة ليست بالغة الأثر.
لم يكن مسار انخفاض التضخم سلساً أبداً. تحسبت أسواق العقود الآجلة في نهاية العام الماضي من ستة تخفيضات لأسعار الفائدة في الولايات المتحدة. واتسمت توقعاتي الشخصية بالتفاؤل. واليوم، وبعد ثلاثة أرباع متعاقبة من التضخم المرتفع، حذّر جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي، من أن عودة التضخم إلى مُستهدفه البالغ 2 %، من المُرجح أن تستغرق «وقتاً أطول من المُتوقع»، وبما يبرر خفض أسعار الفائدة. وتغيرت تقديرات السوق حيال خفض الفائدة في حينه على إثر ذلك. يعتقد البعض أن خفض الفائدة سيتأجل حتى ديسمبر، ويعود ذلك جزئياً إلى تفادي تقليصها قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر. ومع ذلك، لم تشهد منطقة اليورو إعادة تقييم مماثلة، فما زال متوقعاً أن يكون الخفض الأول للفائدة في يونيو.
ثمّة عِبَر يمكن أن نستقيها من هذه القصة. الأولى تتمثل في عدم اليقين الذي يكتنف أي تراجع للتضخم. واحدة أخرى، هي صعوبة قراءة البيانات، وفي هذه الحالة، فإن جزءاً من تفسير القوة الأخيرة لقراءات تضخم أسعار المستهلكين «الأساسية»، هو «إيجار المساكن المعادل للمالكين»، وهو رقم مُفترض مع ذلك. وليس من الواضح بعد إذا ما طرأت تغيرات جوهرية على عملية انخفاض التضخم في الولايات المتحدة. وثمّة درس أخير، ففي حين توجد قواسم مُشتركة وواضحة في عملية تراجع التضخم على الجانب الآخر من الأطلسي، لكن اقتصادات الولايات المتحدة ومنطقة اليورو مختلفة، لتمتع الأولى بديناميكية أكبر.
تقدِّم التوقعات الاقتصادية العالمية الأخيرة، الصادرة عن صندوق النقد الدولي، مقارنة كميّة مُوضِّحة لعمليات انخفاض التضخم على جانبي الأطلسي، استمدها من متوسط التضخم السنوي لثلاثة أشهر. وكان ضيق سوق العمل عاملاً مهماً للغاية في تحريك التضخم الأمريكي، مقارنة بمنطقة اليورو، ما يظل قائماً حتى اللحظة. وفي الوقت ذاته، كانت تأثيرات التمرير الناجمة عن ارتفاع الأسعار العالمية، خاصة أسعار الطاقة، أكبر شأناً في منطقة اليورو.
وجعل هذا من تضخم منطقة اليورو «مؤقتاً» على نحو أكثر مصداقية من الولايات المتحدة. وهناك عواقب لهذا على السياسة النقدية. هناك مجموعتان إضافيتان من البيانات، ستساعدان على إيضاح ما يحدث، أولهما الطلب المحلي الاسمي.
هبط الطلب الكلي الاسمي في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إبّان الجائحة، من دون اتجاهات النمو المُسجلة بين عامي 2000 و2023. وبلغ الطلب الاسمي في الربع الثاني من 2020، مستويات دون الاتجاه، بما يصل إلى 12 % في الولايات المتحدة، وبنسبة 14 % في منطقة اليورو.
وعلى النقيض، سجّل الطلب الاسمي مستويات تفوق الاتجاه بنسبة 8 % بالولايات المتحدة، بحلول الربع الرابع من 2023، وتخطى الاتجاه بواقع 9 % في منطقة اليورو، حيث كان نمو الاتجاه ضعيفاً أيضاً.
لا بد أن هذا النمو الفائق للطلب في هذين الاقتصادين المهمين، قد تسبب في صدمات بالعرض، ناهيك عن استيعابها، لكن هذا من الماضي الآن. تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى توسّع الطلب الاسمي بنسبة 5 % فقط بالولايات المتحدة، وبمقدار 4 % في منطقة اليورو بالعام المنتهي بالربع الرابع من 2023. وما زالت نسبة الأخيرة مرتفعة، لكنها في طريقها للاقتراب من تلك المطلوبة.
والمجموعة الثانية هي النقود. ما زلت أؤمن بوجهة النظر التي تذهب إلى وجوب عدم تجاهل هذه الكميات في الحكم على الأوضاع النقدية. ولم تشهد الجائحة أوجه عجز مالي ضخمة فحسب، بل أيضاً نمواً ضخماً في المعروض النقدي. فعلى سبيل المثال، سجلت نسبة المعروض النقدي «إم 2» الأمريكي، إلى الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني من 2020، مستويات أعلى بنسبة 28 %، مقارنة بالاتجاه الخطي المُسجل بين عامي 1995 و2019. وبحلول الربع الثالث من 2023، عادت النسبة إلى ارتفاع قدره 1 % فقط. وبالنسبة لمنطقة اليورو، بلغت هذه النسب 19 % و- 7 % على الترتيب. وتُظهر هذه الأرقام ازدهاراً وكساداً نقدياً ضخماً. وفي المستقبل، قد يثبت كون ضغوط انخفاض التضخم مفرطة.
إذن، ما الواجب فعله الآن؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يتعين على مسؤولي المصارف المركزية تذكير أنفسهم بأربع نقاط مهمة.
النقطة الأولى، هي أن انتهاء الأمر بالتضخم إلى تسجيل معدلات دون مُستهدفه، وكما علّمتنا التجربة، سلبي للغاية، لأن ذلك يضم في طياته مخاطر أن تكون السياسة النقدية غير فعّالة. يتعين على المصارف المركزية التصرف بافتراض أن عواقب تبنّي السياسة النقدية مفرطة التشدد، قد تكون بسوء الإفراط في تيسيرها. علاوة على ذلك، لا يخفى أن المسألة الأولى قد تكون أكثر إضراراً على وجه الخصوص بالمدينين الضعفاء حول العالم.
والنقطة الثانية، هي أن عدم اليقين سلاح ذو حدين. من الواضح أن الطلب، وبالتالي التضخم، ربما يكونان مرتفعين للغاية، خاصة في الولايات المتحدة. لكن قد يتبين أيضاً أنهما ضعيفان للغاية. ومن شأن السياسات التي قد تقضي على مجرد كون الأخيرة مُحتملة، أن تجعل من الأولى أمراً أكيداً. ولذا، ففي حين يرمي الهدف إلى إعادة التضخم نحو مُستهدفه، لكن ليس من المعقول أن يكون تحقيق هذا الغرض متطلباً لدفع تكاليف، فهو ليس ذا قيمة مُطلقة.
وتتلخص النقطة الثالثة في وجود مشكلات ناجمة عن العزم على القضاء على مجرد إمكانية الاضطرار إلى تغيير المسار. وإذا انطلقنا من الافتراض بأن أول خفض للفائدة، يجب أن تتبعه الكثير من القرارات التي تذهب في الاتجاه ذاته، فستكون درجة اليقين المطلوبة قبل بدء السير في هذا الاتجاه كبيرة للغاية. وسيكون ثمن الانتظار حتى توفر هذه الدرجة من التأكد هو التريث لأمد طويل للغاية.
أما النقطة الأخيرة، فهي أن الاعتماد على البيانات معقول بكل تأكيد. لكن البيانات الجديدة لن تكون مهمة إلا إذا كانت تؤثّر كثيراً في التوقعات المستقبلية. ليس المهم هو ما يحدث في الوقت الراهن، وإنما ما سيحدث بعد أشهر، أو ربما أعوام مستقبلاً، مع ظهور تأثير السياسة السابقة على الظروف. يجب النظر إلى المعلومات الجديدة من هذا المنظار. هناك أسباب وجيهة تدعو إلى افتراض أن آخر تطورات التضخم في الولايات المتحدة ليست بالغة الأثر. ويتعين على «الفيدرالي» تجاهل هذه الأنباء، ما لم يكن واثقاً على نحو معقول في وجوب تجاهلها.
حان الوقت الذي تكون فيه القرارات صعبة بحق. كانت الحاجة إلى تشديد السياسة النقدية جليّة منذ عامين، فقد كانت مخاطر الاتجاه إلى عالم يسوده التضخم المرتفع عالية للغاية. لكن صار من الواضح الآن أن «المركزي الأوروبي» عليه بدء تيسير سياسته. ورغم كون الوضع القائم في الولايات المتحدة أكثر توازناً، لكن «الفيدرالي» مع ذلك ليس بمقدوره الانتظار إلى الأبد.