استبعاد وصول الفيدرالي إلى مستهدفه للتضخم البالغ 2% ما لم يكن راغباً في إحداث ضرر هائل بالاقتصاد

فوجئ الكثيرون بتبني جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، لهجة تيسيرية، منذ أيام خلال مؤتمره الصحافي. وجاء ذلك فور إصدار مجلس الاحتياطي الفيدرالي، البيان الدوري لسياسته، والذي شدد فيه من صياغته فيما يتعلق بالتضخم، وذكر أنه في الأشهر الأخيرة، كان هناك تباطؤ في تحقيق مزيد من التقدم نحو مستهدف للتضخم البالغ 2%.

اعتقد في أن تنحية باول بهدوء لمسألة عدم مرونة التضخم ستكون مناسبة، لكن ليس بالطريقة التي يتوقعها. من المرجح أن تكشف التطورات الاقتصادية عدم قدرة الفيدرالي على الوصول إلى مستهدف 2%، ما لم يكن مستعداً لإحداث أضرار بالغة وغير ضرورية على الاقتصاد. وتجدر الإشارة إلى أن 2% قد لا يكون المستهدف المناسب للتضخم لأي اقتصاد يمر بهذا الكم من التغيرات الهيكلية، على الصعيدين المحلي والدولي.

وبتجاهله ثلاثة أشهر من تخطي الأسعار وتكاليف العمالة للتوقعات، تسبب باول في بادئ الأمر في انخفاض كبير بالعوائد وارتفاع حاد للأسهم، قبل التصحيح بعكس الاتجاه، لكن تبنيه لهجة تيسيرية ليس سابقة بأي حال من الأحوال. كما أن بعض تصريحات باول في المؤتمر الصحافي فيما سبق اتسمت بكونها أكثر تيسيراً، مقارنة بالمناقشات الفعلية التي خاضتها اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، ما ظهر عند صدور محضر الاجتماع بعد عدة أسابيع.

وعلى النقيض من وصفه الاقتصاد بالقوة، فإن ثمة أدلة آخذة في الازدياد على تباطؤ الاقتصاد الأمريكي. جاءت بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الأول، ومؤشر نشاط التصنيع الصادر عن معهد إدارة التوريدات ومقاييس معنويات المستهلكين دون إجماع التقديرات. علاوة على ذلك، وكما أشارت «فايننشال تايمز» هذا الأسبوع، فيعلن عدد متزايد من الشركات أن المستهلكين الأكثر فقراً يخفضون من إنفاقهم على في وجه استمرار زيادات الأسعار. وبداية من المرونة المالية والبشرية المحدودة، فقد شهدوا أكبر سحب من المدخرات التي راكموها إبان جائحة كورونا وزيادة هائلة في الديون، واليوم فربما يشهدوا أيضاً ارتفاعاً للبطالة، ما من شأنه أن يطال من هم أعلى على سلم الدخل.

وفي الوقت ذاته، من المرجح أن تكون عدم مرونة التضخم أكثر ديمومة مما يتصور باول، بالنظر إلى التحولات الهيكلية التي تتم على مدى سنوات وتتسم بكونها تضخمية بالسليقة. ومحلياً، تبتعد الولايات المتحدة عن إلغاء القيود التنظيمية والتحرير والحصافة المالية وتتجه نحو تشديد القيود التنظيمية والسياسة الصناعية والتيسير المالي المفرط. ودولياً، تفسح العولمة مجالاً أمام التجزؤ، مع عمل دول مؤثرة وعدد متزايد من الشركات متعددة الجنسيات على إعادة تهيئة سلاسل التوريد ببطء، وتمنح الأولوية في ذلك للأمن القومي والمرونة وليس الكفاءة وفعالية التكاليف المباشرة.

لا يبدو أن هذه العوامل تسببت في تبني باول للهجة التيسيرية، أو على الأقل إذا ما حكمنا بتصريحاته، لكن مقاومته لتأكيد توقعات السوق بتبني الفيدرالي موقفاً أكثر تشدداً يعد مناسباً لهذا العالم الذي يتصف بضعف ديناميكيات النمو والتضخم غير المرن هيكلياً. ومن شأن لهجة باول أن تتفادى الضرر غير الضروري الذي قد يسببه النمو الضعيف، ويشمل ذلك تدهور انعدام المساواة وسوء تخصيص أكبر للموارد واحتدام خطر عدم الاستقرار المالي.

وجاء الخطر الأكبر الذي تواجه الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي من دولة أخرى، فحينما سئل خلال المؤتمر الصحفي عن مستوى التضخم، أجاب باول: «لا يمكن أن تتواجد نسبة 3% وكلمة مقبولة في الجملة ذاتها، لن أتفاجأ إذا ما كانت النسبة الملائمة للتضخم قريبة من 3% وليس 2%، وهي تطبيق عشوائي لتوصيف نشأ في نيوزيلندا في أوائل تسعينيات القرن الماضي». ومع ذلك، فإن الصدمة الداخلية والأضرار التي لحقت بالمصداقية الخارجية على إثر الخطأ السياسي الذي ارتكبه الفيدرالي في 2021 يؤديان بالمجلس إلى تكرار عبارة في كل اجتماع بأنه ملتزم للغاية بإعادة التضخم إلى مستهدفه البالغ 2%.

وما على المحك لا يطال الولايات المتحدة بمفردها، إذ سيعقد الفشل في الاعتراف بتداعيات التغيرات الهيكلية التي تستغرق أعواماً من إدارة السياسة النقدية في غالبية بقاع العالم. وستلاقي الاقتصادات الناشئة صعوبة في خفض أسعار الفائدة على النحو الذي تبرره الأوضاع المحلية، خشية أن يؤدي هذا إلى تقويض عملاتها التي تراجعت قيمتها بالفعل على نحو غير منظم، فيما سيلاقي التطبيع الاقتصادي والمالي لليابان عراقيل جراء الضعف الشديد للين، وبالنسبة للمصرف المركزي الأوروبي، الذي أصاب في بيان كونه غير معتمد على الفيدرالي، لكنه سيجد أن هناك حداً عملياً لمدى تباينه عن الفيدرالي.

وفي الوقت الراهن، يتعين علينا الترحيب باللهجة التحذيرية التي تبناها باول، حتى وإن لم تكن للأسباب التي يرددها. علينا أيضاً أن نأمل أنه وزملاءه في الفيدرالي سيتسمون بقدر أكبر من الاستراتيجية، بمرور الوقت، في معالجتهم لتلميحاتهم وقراراتهم السياسية.