ربما تكون السياسة المصابة بالخلل طيلة عقود ليست بهذه الأهمية الكبيرة

في أوروبا حلت مظاهر الربيع الثلاثة: الأزهار الزاهية والأيام الطويلة، وأصوات الأمريكيين التي تتردد كثيراً من حولك. وكلها مظاهر مرحب بها. إلا أن المظهر الأخير، هو تذكير سنوي بالقوة الشرائية للسائحين الأمريكيين. وتعزيز للإحساس بتفوق اقتصادهم على اقتصاد القارة الأوروبية في العقد أو العقدين الماضيين.

بطبيعة الحال، يخضع النجاح المادي للولايات المتحدة للنقاش في كافة الأوساط. إلا أن ما لا يقال بوضوح كاف هو أن هذا النجاح جاء في خضم فوضى سياسية. فقد كان هناك نجاح هادر خلال حقبة حركة حزب الشاي، ودونالد ترامب، و«حروب أبدية» في الخارج، علاوة على الحروب الثقافية في الداخل. كذلك، كان هناك عدد من محاولات عزل للرؤساء خلال الجيلين الماضيين يتخطى ما تم طوال القرنين المنصرمين.

وفي بداية القرن الجاري، أفاد 44 % من الأمريكيين بثقتهم في الحكومة الفيدرالية، لكن النسبة باتت الآن 16 % فقط. وقد فشلت الولايات المتحدة في تحقيق انتقال سلمي للسلطة في انتخاباتها الأخيرة، خلافاً للسنغال على سبيل المثال.

وصار الخوف مستفحلاً إلى درجة توجيه المواطنين الأمريكيين المتزنين كثير من الاهتمام بصحة قضاة المحكمة العليا، خشية وفاة أحدهم تحت ظل رئيس من المعسكر المعارض. إذن، هناك الكثير من الاضطرابات السياسية، لكن التداعيات الاقتصادية ضئيلة للغاية. فما السبب؟

قد يكون هناك ميل إلى إرجاع الأمر للصلابة الأمريكية الفريدة. لكن اقتصادات أخرى تمكنت من كبح مشكلاتها السياسية، عقداً بعد عقد. فقد شهدت بولندا ثراء واضحاً منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في 2004 رغم التقويض الحزبي للمؤسسات الوطنية، وهو ما يحاول دونالد تاسك الآن التصدي له بطرق مثيرة للجدل.

كذلك، شهدت فرنسا 30 عاماً من الأداء الاقتصادي المميز بعد 1945، لكنها بموازاة ذلك مرت بمحاولة اغتيال للرئيس، وحرب في الجزائر، وجمهوريتان، ومظاهرات طلابية وبيئة قاسية إلى درجة منع فيلم «الحزن والشفقة» الذي يدور حول التعاون مع النازيين. أي أنه كان من المفترض أن يؤدي ذلك الصراع السياسي إلى قمع روح المبادرة لدى الفرنسيين، لكن فرنسا حققت شكلاً من الازدهار المصحوب بالفوضى.

لذا، لم يبق لنا إلا استنتاج شيء لا علاقة له بالولايات المتحدة، وإنما بالسياسة نفسها. وقد يبالغ من هم مثلي، ممن يجدون الأمر مثيراً للاهتمام في حد ذاته، في تقدير أهمية ذلك. هكذا، فإنه طالما لم يتم المساس ببعض وظائف الحكومة الأساسية في الدولة، الأمن المادي، وإنفاذ العقود، وتحصيل الضرائب، فسواء كانت الحياة العامة «منقسمة» أو حتى بغيضة، فإن هذا الأمر أقل أهمية مما نعتقد.

صحيح أن الاقتصاد لا يمكنه أن يتحمل الكثير من السياسات السيئة. كما لا يمكنه أن يزدهر في ظل أسعار فائدة مرتفعة للغاية أو تعليم غير ممول بشكل كاف. لكن يمكن لصحة النظام السياسي العام أن تسوء للغاية، لفترة طويلة جداً، دون أن يكون له نفس التأثير على معيشة الناس في الواقع.

وفي الواقع، يمكن اقتراح شيء آخر: هناك جوانب سلبية للسياسة «الجيدة». وإذا ما كان هناك صورة فوتوغرافية «نيجاتيف» للتجربة الأمريكية فهي ألمانيا، التي تثير صحة مجتمعها المدني الإعجاب (فلا تزال سرقات رسائل الدكتوراه تشكّل فضيحة في برلين)، لكن اقتصادها يشكّل قصة تحذيرية (فلم يكن هناك أداء أسوأ من أدائها الاقتصادي في 2023 بين الاقتصادات الكبرى).

ربما يكون أول هذين الأمرين هو ما جعل الثاني ممكناً: ففي ظل ثقافة الإجماع، ليس ثمّة حافز لأي سياسي للإشارة على سبيل المثال إلى التهور في الرهان على المدخلات الصناعية الروسية أو تأثير طلب المستهلكين الصينيين. إذ تقلل السياسة الناضجة والتدريجية المعتمدة على التحالفات أهمية النقاش.

ربما تعوّض الولايات المتحدة الأخلاق التي تفتقر إليها السياسة الأمريكية عن طريق التوترات الإبداعية وقدح زناد العقول سعياً للخروج بالأفكار. إنه بلد شرع في التحول من التجارة إلى الحمائية بسرعة الضوء.

ربما ينطوي الأمر على أن العلاقة السببية بين السياسة والاقتصاد تسير في الاتجاه المعاكس: يكون ذلك بشعور المصوّتين بالحرية في الانشغال بالتطرف في الرأي السياسي لأن النمو الاقتصادي قوي بطريقة تجعله أمراً مسلماً به.

وترامب يمكن تحمله، فشأنه شأن ثقافة «تيار اليقظة»، الذي ظهر خلال حقبة توسّع اقتصادي طويلة. وبغض الطرف عن ماهية السر وراء التعايش بين النجاح الاقتصادي والفشل السياسي، فالأمر يحتاج إلى تفسير. ولا يكفي القول إن تصفية الحساب ستأتي في الوقت المناسب.

إن الحياة العامة في الولايات المتحدة آخذة في التدهور منذ نهاية القرن الماضي، حينما قوّض نيوت جينجريتش معايير الكونغرس وتسببت وفاة ما يُدعى بمبدأ العدالة في بروز التحزّب الجائر في وسائل الإعلام.لا شك أن الضرر الاقتصادي قد يكون مؤشراً متأخراً لهذا الشكل من أشكال الضرر السياسي، لكن 30 عاماً وقت طويل لهذا التأخر.

وفي الفكر الليبرالي تعتبر المؤسسات السياسية المستقرة، شرطاً مسبقاً للثراء، وهو يعزز بدوره الدعم الشعبي لهذه المؤسسات. أما في أمريكا، فإننا نشهد تحدياً لهذا المفهوم، وإن لم يكن للمرة الأولى في التاريخ، فربما يكون التحدي الأكبر على الإطلاق. عموماً، من الصعب معرفة ما يجب الشعور به: هل هو ارتياح لصمود صانعي الثروة في أمريكا، أم خوف من أن الناخبين يفتقرون إلى الحافز المادي لإصلاح السياسة؟