أحد أبرز أسباب هذا التحول يتعلق بصدمات سلاسل التوريد التي تسببت في خطأ توقعات التضخم.

صارت «بي إم دبليو» و«جاغوار» و«لاند روفر» و«فولكسفاغن» في مرمى أهداف الكونغرس الأمريكي؛ فما السبب؟ تقرير صادر عن لجنة في مجلس الشيوخ يدعي أن سلاسل توريد هذه الشركات بها مخالفات ترتبط بالصين، وهو اتهام مثير للحرج، بالنظر إلى أن الصين هي المسألة التي تحظى بإجماع من كلا الحزبين تقريباً في واشنطن حالياً.

ولا شك في أن مسؤولين تنفيذيين آخرين سيهرعون إلى تقييم سلاسل التوريد لديهم وحري بالمستثمرين فعل الأمر ذاته، ولكن هناك مجموعة ثالثة من المهنيين التي تجدر متابعتهم في هذا الصدد، وهم خبراء الاقتصاد.

قبل عقدين، لم يركز خبراء الاقتصاد كثيراً على سلاسل التوريد، ويعود هذا جزئياً إلى هيمنة الاقتصاد الكلي على هذا التخصص (أي الدراسات المنهجية من أعلى إلى أسفل) وكذلك الاقتصاد الجزئي (أي دراسة الحوافز الفردية من أسفل إلى أعلى)، وتحل سلاسل التوريد الصناعية في منطقة وسط بين هذين، ولكن غياب الانتباه أبرز افتراضاً بأن سلاسل التوريد لطالما كانت تعمل بسلاسة، وبذلك عد الأمر مملاً.

لقد اعتدت أن أجري اتصالات بمجموعات مديري المشتريات حينما كنت صحافية مبتدئة في أوائل التسعينيات، وكانوا يرحبون بي دائماً؛ لندرة تعاملهم مع صحافيين مختصين بالشأن الاقتصادي.

ولكن يتم دفع سلاسل التوريد دفعاً تحت بؤرة الضوء في الوقت الراهن، في ظل الصدمات الجيوسياسية والبيئية والاجتماعية والسياسية، وإحدى التبعات التي غالباً ما يتم تجاهلها، وفقاً لبيل جينواي، أستاذ الاقتصاد لدى جامعة كامبريدج، في مقال متميز يحمل الكثير من العمق، بروز ما يسميه «الاقتصاد الوسيط» أو «البيني» أي دراسة الفضاء الذي يتوسط الاقتصادين الكلي والجزئي، وفي هذه المساحة تقع شبكات سلاسل التوريد.

وكان واحداً من أبرز الأسباب وراء هذا التحول الفكري يتعلق بصدمات سلاسل التوريد، التي تسببت في خطأ توقعات التضخم، حسب ما أشار البيت الأبيض، وسبب آخر عودة السياسة الصناعية إلى صدارة المشهد وبقوة.

وهناك حافز ثالث يتمثل في الابتكار الرقمي، إذ تتيح البيانات الضخمة لخبراء الاقتصاد تتبع شبكات الشركات على مستوى عميق من التفصيلات لم يكن مُتصوراً من قبل، وفي الوقت الفعلي تقريباً. وأوضح جينواي قائلاً: يعني ذلك إمكان تحديد توصيف رياضي لكل مجموعة من العلاقات البينية للشركات عن طريق رسم بياني، ما يتيح استخدام مفاهيم من الرسم البياني.

وبعبارة أخرى، ففي حين اعتاد خبراء الاقتصاد التصرف كأنهم أطباء في العصور الوسطى حين كانوا يشخصون الحالات بمجرد فحص أعضاء الجسد واستنتاج كيفية تفاعلها، فإنهم يهدفون إلى أن يكونوا أشبه بالأطباء المزودين كاميرات مجهرية تراقب كيفية سريان الدم لتقييم حالة المريض، ولذا، تعد هذه الشبكات والسلاسل مهمة للغاية.

وقد أجرى المصرف الدولي للتسويات أخيراً تحليلاً جديداً لسلاسل القيمة العالمية، ويفحصها صندوق النقد الدولي بدوره هو أيضاً، كما يستخدم خبراء الاقتصاد، الاقتصاد الوسيط من أجل استكشاف حجم الضغوط على التسعير والابتكار.

إن هذا التحول لا يزال بالتأكيد في مراحله الأولية، ولكن ينبغي الاحتفاء به في اعتقادي لثلاثة أسباب على الأقل: الأول والأكثر وضوحاً توافر فهم أفضل لدى صانعي السياسة في شأن كيفية عمل الاقتصاد وتطور التضخم باستخدام هذا النوع من التحليلات البيانية، والثاني أن التحول قد يساعد على توسيع أفق مهنة الاقتصاد وتشجيع الخيال.

وقد بدأت إعادة التفكير هذه منذ 15 عاماً بعد الأزمة المالية العالمية في سنة 2008، حينما برزت مجالات التمويل السلوكي وكذا الاقتصاد السلوكي، فمزجا علم النفس والاقتصاد معاً،.

وكذلك يزدهر الاقتصاد العصبي الذي يهتم بما يدور في العقل عند اتخاذ القرار الاقتصادي، ولكن هذا التفكير متعدد الاختصاصات في حاجة إلى أن يذهب إلى مدى أبعد من هذا.

ويعد التبادل غير النقدي مثالاً على ذلك، مثل التبادل الهائل للبيانات في مقابل الخدمات في فضاء التكنولوجيا الاستهلاكية، ولذلك، ستواجه مجالات الاقتصاد الكلي والجزئي التي سادت القرن العشرين صعوبة في التعامل مع ذلك، وستكون مجالات مثل «الأنثروبولوجيا» أو علم الإنسان، الذي يشتمل على نظريات عن المقايضة، مفيدة في هذا الصدد.

ويسلط هذا الضوء على السبب الثالث وراء وجوب الاحتفاء ببروز الاقتصاد الوسيط أو البيني، فتحليل الشبكات مهم للكثير من مجالات الاقتصاد السياسي، بعدما كان يتم التغاضي عنه وتجاهله كثيراً.

ولننظر مثلاً إلى التمويل، فقد أصبح من الواضح، بعد الأزمة المالية، أن مبالغة المصرفيين في «تجزئة» أخطار الائتمان إلى سلاسل معقدة من المعاملات كانت سبباً من أسباب الكارثة، إذ كانت تتركز على نحو خطر في اختناقات منفردة أو عُقد، ولم يُكتشف هذا التركّز بسبب تدقيق عدد قليل من الأفراد في هذه الشبكة، وكانوا يركزون إما على الأخطار المنفردة التي كانوا يتعرضون لها وإما كانوا يستخدمون تحليلات تنازلية لفحص النظام بأسره، ولكن الممولين والمنظمين باتوا يتسمون بذكاء أكبر في ما يتعلق بشبكات المعاملات هذه.

ومع ذلك، تعد هذه الشبكات مهمة بطرائق أخرى؛ فعلى سبيل المثال، حذر مايكل هسو، القائم بأعمال رئيس مكتب مراقب العملة في الولايات المتحدة، من أن استخدام المصارف للحوسبة السحابية يتركز بصورة شديدة على عدد ضئيل من الموردين بصورة تسفر عن اختناقات جديدة وأوجه ضعف خطرة، وهي المخاوف التي يتشاركها مع المصرف الدولي للتسويات.

ثمة مثال آخر، فقد أشار تيم أوريلي، الخبير التكنولوجي ورائد الأعمال، إلى أن خبراء الاقتصاد وصانعي السياسة غالباً ما يتجاهلون التأثير الاقتصادي الناجم عن سلاسل التوريد الرقمية، وأخبرني أوريلي أن تحليل الشبكات في حاجة إلى تتبع النظم البيئية لخلق القيمة التي حافظت على شبكة الإنترنت العالمية وكيف أنها تتعطل بفعل النماذج اللغوية الكبيرة.

ولذا، نحن لسنا في حاجة إلى «الاقتصاد الوسيط» فحسب، وإنما أيضاً إلى مزيد من تحليلات «التكنولوجيا الوسيطة» و«التمويل الوسيط»، وقد يوسّع الكونغرس وحكومات أخرى تركيزهم الجديد على أخطار سلاسل التوريد ليشمل تمويل هذه البحوث، وسيكون قطاع السيارات أحد المجالات التي يمكن أن تكون نقطة الانطلاق.