احتدت الأمور في كواليس مؤتمر «فيفاتك» بباريس، حيث كان من المقرر أن أجري مقابلة مع محافظ البنك المركزي الفرنسي، فرانسوا فيليروي دي غالو، على المنصة، لكنه لم يصل، فقد حال زحام باريس دون وصوله بالسيارة في الوقت المحدد، لذلك ركض فيليروي إلى المترو.

وصل فيليروي متأخراً بضعَ دقائق فقط، وبينما كنا نتجه إلى المنصة، همس لي بألا أنسى أن أسأله عن بيانات الأجور، والتي صدرت في وقت سابق، فقد كشفت هذه البيانات أن الأجور المتفاوض عليها زادت بمعدل سنوي قدره 4.7% خلال الربع الأول، مرتفعة إلى مستوى قياسي تقريباً بدلاً من أن تنخفض كما كان متوقعاً من جانب البنك المركزي.

بالطبع كنت سأطرح السؤال على أية حال، إلا أنني وجدت أنه من الغريب أن أحد أعضاء مجلس المحافظين الأوروبي أراد الحديث عن بيانات رأت الأسواق المالية أنها تقوض حجة البنك المركزي الأوروبي لخفض معدل الفائدة من 4% إلى 3.75% خلال شهر يونيو.

لقد شدد فيليروي على أن المحللين يجب ألا ينجروا إلى «المبالغة في تفسير» البيانات، قائلاً إن مواطن قوة الأجور المتفاوض عليها كانت نتيجة «الاستثناء الألماني»، الذي ينطوي على مدفوعات للقطاع العام لمرة واحدة، والتي لن يكون لها تأثير على الأسعار.

وأوضح قائلاً: «حين تنظر إلى جميع الدول الأخرى، بدءاً من فرنسا ستجد تباطؤاً ملحوظاً في الأجور مقارنة بالعام الماضي مصحوباً بانخفاض الأسعار، وهذا ما كنا نتوقعه»، وقال: «ما لم تظهر مفاجأة جديدة فإننا على الأرجح سنجري أول خفض لسعر الفائدة في اجتماع مجلس المحافظين المقبل، أي في 6 يونيو».

بعبارات مماثلة تقريباً طرح فيليب لين، كبير الاقتصاديين لدى المركزي الأوروبي، الفكرة نفسها، لذا بعد المقابلة مع فيليروي فكرت في أنه كيف يمكن لمسؤولي البنك المركزي الأوروبي تجاهل البيانات غير المريحة بسهولة مقارنة بالبنك الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا، وتوصلت إلى سببين رئيسيين:

أولاً، هناك دليل واضح على أن سلسلة الأجور المتفاوض عليها كانت مشوهة بسبب بعض المدفوعات لمرة واحدة. وقد تمكن البنك المركزي الأوروبي من إثبات ذلك في مدونة له، وقد أظهر أنه من غير المرجح أن تكون السلسلة قد ارتفعت مرة أخرى لأعلى مستوياتها القياسية بمجرد استبعاد هذه المدفوعات.

كما سلط بحثه الضوء على أدلة أحدث من أداة تتبع الأجور (الذي تعهد بنشرها بانتظام أواخر هذا العام)، ما يشير إلى أن تسويات الأجور كانت تسير بوتيرة أقل من المتوقع في عام 2024 مقارنة بما توقعه المسؤولون في ديسمبر، وقالت المدونة إن هذا «يمكن أن يساعد في تفسير هذه الإشارات (الأجور) الأخيرة ووضعها في منظورها الصحيح».

السبب الثاني هو أن البنك المركزي الأوروبي «المعتمد على البيانات» يجد أن سهولة تجاهل البيانات غير الملائمة ناجم عن استراتيجية مصممة بذكاء. وتكرس رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد جزءاً مهماً من مؤتمراتها الصحفية المنتظمة المتعلقة بالسياسة النقدية لبعض الكلمات المملة للغاية، قائلة إن مجلس المحافظين للبنك المركزي الأوروبي سيقرر خفض أسعار الفائدة بناء على «تقييم توقعات التضخم وديناميكيات التضخم الأساسي وقوة آليات نقل السياسة النقدية».

ورغم أن ديناميكيات التضخم الأساسي (بيانات التضخم) وقوة آليات نقل السياسة النقدية (النشاط الاقتصادي) يعتمدان بوضوح على البيانات فإن تقييم توقعات التضخم هو قرار يصدر عن البنك المركزي الأوروبي بناء على نموذج التنبؤ الخاص به. وبهذه الطريقة يمكن للبنك المركزي الأوروبي القول إنه يعتقد أن البيانات مجرد انحراف عرضي، وأنه سيتجاهلها.

الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا يقفان على النقيض من ذلك، حيث يبدو أن توقعاتهما لأسعار الفائدة الآجلة (ومن ثم الأوضاع المالية) تعتمد على البيانات بشكل مبالغ، وتعصف بها مفاجآت البيانات بانتظام. وبالنسبة إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي كان الحدث الرئيس في السوق منذ أيام هو إصدار محضر اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، الذي كشف نوايا المسؤولين في الحفاظ على أسعار فائدة أعلى لفترة أطول إذا لم تتحسن توقعات التضخم.

وفي حين أن العديد من أعضاء اللجنة كانوا متشككين في مدى تأثير أسعار الفائدة بين 5.25% و5.5% على تقييد النشاط الاقتصادي، إلا أنهم كانوا واثقين بأن السياسة كانت صارمة، وكانت هذه تصريحات مشروطة تظهر أن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يؤدون مهامهم، وتم اعتبار هذا البيان متشدداً، لكن الحدث كان سيبدو أكثر تشويقاً بكثير، في سيناريو بديل يقول فيه المسؤولون إنهم يرفضون زيادة أسعار الفائدة حتى إن كان من الملائم القيام بذلك. ورغم الطبيعة المشروطة والمنطقية للمحضر فقد اعتبرته الأسواق المالية بمثابة إشارة إلى عدم خفض أسعار الفائدة قريباً.

وبعد توقعات خفض أسعار الفائدة بناء على البيانات الإيجابية في مؤشر أسعار المستهلك الصادر الأسبوع الماضي شهد سوق الأسعار تقلبات بالغة.

وفي المملكة المتحدة خرج الاعتماد على البيانات عن السيطرة أيضاً، ومن شبه المؤكد أن بيانات التضخم المخيبة للآمال الصادرة يوم الأربعاء والإعلان عن إجراء انتخابات عامة في يوليو قد استبعدا قيام بنك إنجلترا بخفض سعر الفائدة في يونيو، ولن يتمكن البنك المركزي في المملكة المتحدة من تبرير أي إجراء، لأن تضخم الخدمات انخفض بشكل طفيف، وتراجع احتمال خفض الفائدة في يونيو من 50% إلى نحو الصفر. مع ذلك زادت الأسواق بشكل كبير من توقعاتها لسعر الفائدة في المملكة المتحدة بناء على أرقام التضخم لمدة شهر واحد.

ومقارنة بالأسبوع الماضي فقد ارتفعت توقعات أسعار الفائدة في المملكة المتحدة لمدة عامين مقبلين بمقدار 0.25 نقطة مئوية، وهذا بالتأكيد يعد مبالغة في الاعتماد على البيانات.