بعد أن تجاوزت سن الثلاثين بمدة قصيرة، تم تعييني في واشنطن العاصمة كمديرة مكتب لصحيفة أسترالية في ظل أوضاع تبدو صعبة التصديق في يومنا هذا.
وكان القرار غير مبهر بالمرة، حيث كان المكتب يتألف من موظف واحد فقط – أنا. لكن الأمر الاستثنائي مقارنة بمعايير اليوم تمثل في المزايا المذهلة التي حصلت عليها كمغتربة، فقد كان بدل الإيجار مدعوماً بسخاء، وكان لدي تأمين صحي من الدرجة الأولى، وبدلات لشراء سيارة وهاتف والعديد من النفقات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، لو كان لي أولاد آنذاك، كان من الممكن تغطية رسوم مدارسهم.
المغتربون الآخرون الذين أعرفهم كانوا يتمتعون بامتيازات مماثلة، بالإضافة إلى رحلات سنوية لجميع أفراد العائلة للعودة إلى الوطن، وأموال مخصصة لخدمات أخرى، مثل توظيف محاسبين للتعامل مع الضرائب. بل إن البعض كانوا يحصلون على أموال إضافية للتأكد من أن أي ضرائب مدفوعة في الخارج لن تتركهم أسوأ حالاً مقارنة بما لو بقوا في وطنهم. هذه العروض السخية لم تتلاش تماماً الآن، لكن متخصصين في نقل موظفي الشركات إلى الخارج لفتوا إلى أنها آخذة في التناقص بوضوح داخل العديد من الشركات، وليس فقط داخل قطاع الإعلام.
وأظن أن هذا هو أحد الأسباب التي تجعلني أسمع كثيراً عن اتجاه جديد في أماكن العمل: تراجع الاهتمام بفكرة العمل في الخارج.
كان هذا الأمر يحدث أحياناً قبل الجائحة، حيث تعارضت العروض المعتادة المخصصة للرجال ومعهم زوجاتهم غير العاملات مع ظهور طائفة من النساء العاملات اللاتي يكسبن أحياناً أكثر من أزواجهن. وفكرة قيام زوجين من ذوي الدخل المزدوج بخفض دخلهما إلى النصف، ووقف مسيرتهما المهنية مقابل حزمة من المزايا للعمل في الخارج تثير الكثير من الإشكاليات، خاصة إذا كان مطلوباً منهما أيضاً تحمل هواء نيودلهي الخانق، أو معدل الجريمة المرتفع في تيخوانا.
لكن من الواضح أن قلة الاهتمام بالإيفاد للخارج قد زادت منذ تفشي الوباء. وتقول كايتلين بيت، المستشارة في مجموعة كراون وورلد موبيليتي، والتي تتمتع بخبرة في قطاع نقل الموظفين للعمل بمواقع خارجية تقارب 30 عاماً: «إن الوضع بمثابة مفاجأة».
وتضيف: لاحظت هذا التحول الواضح للمرة الأولى أواخر العام الماضي، عندما قال عملاء لها في قطاعات مختلفة، بدءاً من الطاقة المتجددة إلى التكنولوجيا الطبية، إنهم يواجهون صعوبات متزايدة في إقناع الموظفين بقبول مهام في بلدان أجنبية. وهذا مفاجئ بالنظر إلى أن الوباء أدى إلى زيادة عدد الرحل الرقميين كثيري الأسفار، والذين يكونون غالباً في العشرينيات من أعمارهم، حيث بدا أنهم يرمزون إلى اتجاه العمل في المستقبل.
وبدأت الشركة التي تعمل فيها بيت في إجراء الأبحاث من أجل فهم أفضل للوضع. بموازاة ذلك، طورت كايتلين بيت عدة نظريات، تبدأ بجاذبية فكرة العمل من المنزل التي اكتشفها العاملون الذين يبلغون من العمر 40 عاماً أو أكثر أثناء عمليات الإغلاق بسبب الجائحة.
وقالت: «لقد أدركوا أن بوسعهم العمل بكفاءة من على طاولة مطبخهم، فلماذا يجب عليهم العودة إلى المكتب، ناهيك عن إزعاج ركوب الطائرة والسفر إلى جانب آخر من العالم؟» قد يساعد هذا الشعور في تفسير سبب تغيير اتجاه التكليف بمهام دولية في شركات مثل إنكا، أكبر مالك لمتاجر ايكيا. فلا تزال المجموعة توفد موظفين للعمل في الخارج مع عائلاتهم للقيام ببعض الوظائف الحيوية والضرورية للشركة.
لكن متحدثة باسم المجموعة أخبرتني أن البروز القوي لفكرة العمل عن بُعد، إلى جانب «التحديات المهنية للزوجين»، أديا إلى «ارتفاع ملحوظ» في ظهور ترتيبات تتسم بمرونة أكبر، فإما يتنقل الموظفون ذهاباً وإياباً أو يعملون لفترة في مهمة محددة في دول أخرى. وثمة مؤشرات أخرى على تراجع الرغبة في العمل بالخارج، حيث كشفت دراسة عالمية حديثة أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية، وشملت أكثر من 150 ألف عامل، أن نسبة الراغبين في الانتقال للعمل في الخارج انخفضت من 78% في عام 2018 إلى 63% في عام 2023.
وقد يكون هذا بسبب أن العالم بات أقل انفتاحاً بينما يتزايد الطابع العالمي للأعمال، كما تقول المؤلفة المشاركة، أورسوليا كوفاتش أوندريكوفيتش. وهي تعني بذلك أن أحداثاً، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والصراعات الجيوسياسية، جعلت من الصعب على الأشخاص الانتقال فعلياً إلى الخارج، في حين أن نمو خيارات العمل المرنة جعل من السهل عليهم البقاء للعمل في أماكنهم. وتقول: «يمكنك الآن العمل عن بُعد في وظيفة أفضل دون الحاجة إلى التنقل».
بعبارة أخرى، قبل تفشي الوباء كان من الصعب تخيل اكتساب الكثير من الخبرة أو الاستفادة من العمل في الصين أثناء الوجود في أوروبا، لكن الآن تغير هذا المنظور. كل هذه التفسيرات منطقية، وأستطيع أن أفهم السبب وراء تلاشي المزايا المقدمة للعمل في الخارج، لكن تبقى حقيقة أن الانتقال إلى بلد جديد للعمل يمكن أن يظل تجربة رائعة تثري حياتك الشخصية ومسيرتك المهنية على حد سواء، وهو ما سيكتشفه على الأرجح الشخص الذي يحصل على هذه الفرصة.