نفد صبر الولايات المتحدة وأوروبا بشكل متزايد من إفراط الصين في إنتاج الصلب، وإغراق الأسواق الخارجية بمنتجات رخيصة، وفرض الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن الكثير من التعريفات الجمركية على الصلب الصيني الذي بالكاد ينفذ إلى السوق الأمريكية هذه الأيام، كما تفرض أوروبا تعريفات جمركية على 20 نوعاً مختلفاً من الصلب الصيني.

وأدت هذه النزاعات التي تحظى بتغطية إعلامية كبيرة بين الصين وأكبر شريكتين تجاريتين لها، إلى بروز اتجاهات مثيرة للقلق في أماكن أخرى، فقاطرة الإجراءات الحمائية، مهما كانت طيبة النوايا، من الصعب إيقافها بمجرد انطلاقها. لذلك، باتت عدوى الحمائية التي لم يلحظها الكثيرون تنتشر الآن في أنحاء أخرى من العالم، خصوصاً في أمريكا اللاتينية.

وأعلنت المكسيك وتشيلي والبرازيل، في أبريل الماضي، فرض تعريفات جمركية جديدة على واردات الصلب، مشيرين إلى تدفق غير مسبوق لمنتجات الصلب الرخيصة إلى أسواق هذه الدول بشكل يهدد شركات الصلب المحلية. وأكدت السلطات الكولومبية، أنها ستحذو حذو هذه الدول، لكنها لم تعلن الأمر رسمياً بعد. ورغم أن البرازيل والمكسيك لم يذكرا الصين بالتحديد، لكن تشيلي وجهت انتقادات للأسعار التي يقدمها منتجو الصلب الصينيون، فكيف انتهت الأمور إلى هذا الوضع؟.

أدت الحواجز التجارية التي فرضها ترامب وبايدن، إلى إغلاق السوق الأمريكية أمام صادرات الصلب الصينية. نتيجة لذلك، تحول الصلب الفائض الذي تنتجه الصين إلى أسواق أخرى حول العالم، وأمريكا اللاتينية التي تعد هدفاً لهذه الصادرات، تنتج الصلب وتستخدمه بوفرة.

ودخلت التعريفات المكسيكية والتشيلية حيز التنفيذ بالفعل، وتغطي التعريفات المكسيكية مجموعة سلع، إضافة إلى منتجات الصلب، وتأتي كلها من دول لا تربطها معها اتفاقيات تجارة حرة مسبقة، أما التدابير التشيلية والبرازيلية فهي قاصرة حتى الآن على الصلب.

وفي حين تبنت تشيلي والمكسيك التعريفات الجمركية باعتبارها الأداة الحمائية الوحيدة في مواجهة طوفان الصلب الصيني، فإن البرازيل اختارت مزيجاً من التعريفات الجمركية والحصص الاستيرادية. وأشارت وزارة الصناعة والتجارة البرازيلية، إلى تطبيقها تعريفة جمركية بنسبة 25% على الواردات التي تتجاوز 30% من متوسط حجم الواردات بين 2020 و2022. ويبلغ متوسط رسوم استيراد منتجات الصلب 10.8 %.

وهناك تداعيات سياسية لما تسميه الصحافة الإقليمية «حرب الصلب» في أمريكا اللاتينية، فحتى وقت قريب، أحجمت دول المنطقة عن أن تحذو حذو الولايات المتحدة في حروبها التجارية مع الصين، ما يعكس اعتماديتها الكبيرة على الصين في التجارة والاستثمار. لكن ذلك تغير الآن، فالدول التي أعلنت إجراءات تجارية تقييدية ضد الصلب الصيني تحكمها كلها في واقع الأمر، حكومات «صديقة للصين» وتحتفظ بعلاقات وطيدة مع بكين.

وتأتي تحركات البرازيل الحمائية رغم عضويتها في تكتل «البريكس»، والدعم الذي قدمه الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا للصين ولروسيا في النزاع مع أوكرانيا، وربما تأتي هذه الإجراءات الحمائية من البرازيل حديثاً ضد الصين بآثار اقتصادية عكسية.

وتقدم التعريفات الجمركية التي فرضتها أمريكا اللاتينية على الصلب درساً مهماً، فبمجرد بدء تطبيقها يصعب احتواؤها والتحكم فيها، وستتصاعد سلسلة من التدابير المناهضة للتجارة، وستخرج أحياناً عن نطاق السيطرة، بمجرد أن تقرر سوق كبيرة مثل أمريكا والاتحاد الأوروبي إغلاق أبوابهما أمام المنافسين بالخارج.

وفي حين أن التعريفات قد تكون مبررة في البداية بسبب ممارسات التسعير الافتراسي، أو بسبب الحاجة إلى الدفاع عن الشركات المحلية في وجه الضغوط الخارجية غير المبررة، فإن النتيجة النهائية يمكن التنبؤ بها، ففي نهاية المطاف سيخسر الجميع. قد تتجلى الخسائر في هيئة عدم كفاءة، أو أسعار أعلى، أو انحسار للتنافسية والإنتاجية، أو كل ما سبق وقد يستغرق تجلي النتيجة الحتمية وقتاً، لكن ليس ذلك مدعاة لتجاهل مخاطر تمدد الحمائية والحروب التجارية والانتكاسات الجيوسياسية التي قد تسببها.

ورغم أن التعريفات الجمركية قد تكون مبررة في البداية بالتسعير الافتراسي، أو الحاجة إلى الدفاع عن الشركات المحلية ضد الضغوط الخارجية غير المبررة، أو غير ذلك من الحجج الدفاعية، فإن النتيجة النهائية يمكن التنبؤ بها، ففي نهاية المطاف، يخسر الجميع.

وقد تأتي الخسائر في هيئة عدم الكفاءة، أو ارتفاع الأسعار، أو انخفاض القدرة التنافسية والإنتاجية، أو كل ما سبق، وقد يستغرق ظهور النتيجة الحتمية بعض الوقت، لكن ذلك ليس سبباً لتجاهل مخاطر تمدد التدابير الحمائية، والحروب التجارية، والانعكاسات الجيوسياسية التي يمكن أن تتسبب فيها.

زميلة في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي