يبدو أن الأمور كافة من حولنا في طور التغيّر، لكن من الواضح أن جانباً واحداً على الأقل من الحياة العصرية بدأ أخيراً في إظهار مؤشرات على الاتجاه نحو الاستقرار، وهو يتمثل في المكاتب.

وفيما يبدو الكثير من المباني بالمدن في شتى أرجاء العالم خاوية بصورة كبيرة مقارنة بما كانت عليه قبل الجائحة، وبينما تخبو ذكريات الإغلاقات ذات الصلة بالجائحة وتتحول إلى شيء من الماضي، تقترب معدلات استخدام المكاتب رويداً من مستويات أكثر استقراراً.

ويشير أحد التقديرات إلى أن متوسط معدل إشغال المكاتب في المملكة المتحدة قارب مستوى 33 % على مدى 12 شهراً حتى مايو الماضي، وهو ما يعادل نصف المستويات المُسجلة قبيل الجائحة.

وفي الولايات المتحدة، يسجل متوسط معدلات العمل من المنزل مستويات أعلى كثيراً عمّا كان سائداً قبل الجائحة، لكن المعدلات أخذت في الاستقرار إلى حد ما منذ منتصف 2022، بحسب باحثين عملوا على رصد التحولات الهائلة التي أفرزتها الجائحة.

وشهد شهر مايو الماضي تسجيل رقم مهم لم يلقِ انتباهاً كبيراً، إذ انخفض مقياس بارز وهو نسبة أيام العمل الكاملة من المنزل مدفوعة الأجر إلى أدنى مستوياته منذ أولى فترات الجائحة عند 26.6 %. وإن كان المقياس عاود ارتفاعه من جديد إلى 28.6 % بحلول يونيو، ما يقل ببضع نقاط عن مستوى 31.6 % المُسجل في يونيو 2022.

وبعبارة أخرى، أضحت أنماط العمل الهجين وخارج المكتب أكثر مرونة مما توقع أرباب العمل، أو فاقت ما كانوا يأملونه. وفي حين أن الوقت ما زال مبكراً للغاية لتحديد ما ستؤول إليه معدلات العمل من المنزل في نهاية المطاف، لكن ربما يلوح الاستقرار في الأفق. وعلى المستوى الشخصي، فإنني أميل تماماً إلى التحوّل نحو عمل أكثر مرونة، لكن من المحبط إدراك أن التحوّل لا يناسب الجميع.

وقد أفاد باحثو «غالوب» هذا العام بتراجع مشاركة الموظفين في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من عقد، ما يعني أن العاملين يشعرون بقدر أكبر من الانفصال عن شركاتهم، وبقدر أقل من الرضا والارتباط. ويُعد هذا مقلقاً، بالنظر إلى ارتباط المشاركة بالإنتاجية وخدمة العملاء والسلامة والربحية.

وليس واضحاً تماماً السبب وراء ذلك، لكن هذا الأمر كان بارزاً أكثر بين صفوف الموظفين من الشباب الذين يعملون حصراً من المنزل. والأكثر إثارة للاهتمام هو شعور فريق آخر بالأمر ذاته، وهم الذين بإمكانهم إنجاز أعمالهم عن بُعد لكنهم يعملون كلياً من المكتب. فما احتمالات أن العاملين في هذه المجموعة الأخيرة كانوا ملزمين بالعمل من المكتب خمسة أيام أسبوعياً، وهو ما واجهه موظفون في شركات أمريكية كبيرة تشمل بوينغ و«يو بي إس» وجيه بي مورغان؟

أعتقد أن احتمالات ذلك كبيرة، لا سيما عندما نضع في اعتبارنا بيانات صادرة عن شركات مثل كوشمان آند ويكفيلد لاستشارات العقارات التجارية. فقد وجدت الشركة أن قرارات العودة إلى العمل من المكتب بإمكانها زيادة الحضور إلى المكتب بما يصل إلى 14 نقطة مئوية، لكنها ستدفع معدلات مشاركة الموظفين إلى الانخفاض بمقدار 26 نقطة.

وهذه المقايضة تبدو لي غير جيدة بالمرة. ولحسن الحظ، فإن بعض الشركات لديها قدرة كبيرة على خلق أنماط هجينة تناسب كافة الموظفين، بما في ذلك الشباب ممن يحتاجون إلى المساعدة الشخصية ليتمكنوا من شق طرقهم.

وتنبئ مؤشرات أخرى باحتمالية وجود تحوّل أكبر كثيراً يمضي على قدم وساق: فمع إدراك مسؤولي الشركات فاعلية العمل الهجين في اجتذاب كبار الموظفين والحفاظ عليهم، يعيد البعض الآخر النظر في طريقة تصميمهم للمساحات المكتبية أو بنائها.

وقالت ديسبينا كاتسيكاكيس، الشريكة التنفيذية لدى «كوشمان آند ويكفيلد»، إن المسؤولين عن العقارات بدأوا يتلقون طلبات بالتركيز على ما هو أبعد من مجرد توفير التكاليف على المدى القصير. وبدلاً من تقديم التقارير إلى المدير المالي، أضافت كاتسيكاكيس أن المسؤولين بدأوا العمل مع أقسام الموارد البشرية لتأسيس مكاتب يحب الموظفون العمل بها.

سلّطت مجموعة سي بي آر إي للخدمات العقارية، الضوء على إفادة 24 % من المسؤولين التنفيذيين في قطاع العقارات بأنهم كانوا يقدمون تقاريرهم مباشرة إلى مسؤولي الموارد البشرية في 2022، بزيادة قدرها 14 نقطة مئوية عن العام السابق، وتوقعت استمرار ارتفاع النسبة في 2023.

ولطالما عمل فريق عقارات الشركات لدى «باركليز» في المملكة المتحدة في القسم ذاته الذي تعمل به فرق الموارد البشرية والمالية. وافتتح المصرف مؤخراً حرماً يحظى بإعجاب شديد في غلاسكو يهتم باحتياجات العاملين على نحو شديد الدقة.

بطبيعة الحال، ليس بمقدور كل رب عمل تحمّل تكاليف مكتب كهذا، لكن لا يحتاج كل رب عمل إلى ذلك. وتُعد إتاحة أنماط عمل مرنة في مكان لائق يسهّل من إنجاز العمل الذي تتلقى أجراً لقاءه وصفة للنجاح، خاصة في عالم يبدو من غير المرجح للغاية أن نعود فيه إلى العمل بالطريقة التي ألفناها قبل 2020.