أظهرت أسواق السندات، التي يفترض أنها تتحلى بالفطنة، اتجاهاً منذ فترة، أشبه بأسهم «الميم» (وهي أسهم الشركات التي اكتسبت شعبية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات عبر الإنترنت بدلاً من الأساسيات المالية التقليدية). ويبدو أن أسواق السندات لن تعود لسابق عهدها في القريب العاجل، ففي وقت سابق من هذا الصيف اندلعت أحدث اضطرابات السوق، بعدما فتح تقرير الوظائف الضعيف في الولايات المتحدة أبواب الجحيم لفترة وجيزة في جميع فئات الأصول الرئيسية.

وجاء تقرير الوظائف غير الزراعية لشهر يوليو أقل بكثير من التوقعات، حيث أضافت الولايات المتحدة 114 ألف وظيفة فقط، خلال الشهر، مقارنة بـ 175 ألف وظيفة متوقعة، وقد أثار هذا التراجع الهائل جدلاً بأن أسعار الفائدة الأمريكية ربما بقيت أعلى من اللازم لفترة طويلة. ومع ذلك كان هذا مجرد تقرير واحد، ومن المرجح أنه تأثر بالعوامل المرتبطة بالطقس، وعلى أية حال فإن التنبؤ بالوظائف على نحو دقيق ومتسق مسعى لا طائل منه.

وعلى الرغم من هذا فقد أصيبت أسواق السندات الحكومية، والمشتقات المرتبطة بها التي تمكن المستثمرين من التحوط ضد التحركات في أسعار الفائدة أو الاستفادة منها بالجنون. وفي ذروة التقلبات الصيفية، التي مرت بسلام الآن لحسن الحظ، كانت هذه الأسواق تشير إلى أن المستثمرين يتوقعون اتجاه الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة بين الاجتماعات، وهو إجراء عاجل لا يتخذ عادة إلا في ظل أشد الأزمات مثل الأوبئة أو تزعزع الاستقرار المالي.

وبعد قرابة أسبوعين أو أكثر، استعادت الأسواق توازنها إلى حد كبير، وعادت مقاييس تقلب سوق الأسهم إلى المستويات المنخفضة، التي شهدتها خلال عام تقريباً، فيما لم تهدأ سوق السندات بالطريقة نفسها، حيث تخلت الآن عن فكرة خفض الفائدة على نحو كبير في الخريف المقبل.

وهذا يعد انحرافاً عن السيناريو المعتاد، ففي الترتيب غير الرسمي للأسواق، غالباً ما يُنظر إلى تقلبات العملات قصيرة الأجل على أنها تكهنات، بينما تخضع الأسهم للصيحات المبتدعة، أما سوق السندات فمن المفترض أن تكون العقل المدبر، حيث تقدم إشارات لفئات الأصول الأخرى لتتبعها، وتوفر قراءة مدروسة عن الاتجاهات المقبلة للاقتصاد العالمي والسياسة النقدية، لكن من المحرج أن هذه النوبات من التقلبات البالغة تزداد شيوعاً.

وعلى سبيل المثال فإنه بحلول نهاية العام الماضي كانت سوق السندات، التي يفترض أنها تتسم بالحنكة والموثوقية، تخبرنا بأن الاحتياطي الفيدرالي سيتجه لخفض أسعار الفائدة من 6 إلى 7 تخفيضات خلال عام 2024، وذلك ببساطة لأن أشد موجات التضخم في الولايات المتحدة قد شهدت تراجعاً، وبعد عدة أشهر، ومع اقتراب شهر سبتمبر فإننا لا نزال في انتظار أول خفض لأسعار الفائدة.

وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً فسنجد أن أسواق السندات الحكومية الأمريكية أظهرت رد فعل قوياً مع انهيار بنك «سيليكون فالي» في ربيع عام 2023، ورغم أن الانهيار المصرفي له دلالاته بالتأكيد فإن استجابة سوق السندات كانت شديدة لدرجة اعتقاد المستثمرين بأن إجراء خفض طارئ في أسعار الفائدة قد يكون ضرورياً، لكن الحال لم تكن كذلك، فلماذا تظهر سوق السندات، التي يفترض أنها تتحلى بالفطنة، ميولاً أشبه بأسهم الميم؟

في هذا السياق قال غريغ بيترز، المدير المشارك للاستثمار لدى شركة «بي جي آي إم للدخل الثابت»، إن تغير بنية السوق مسؤول جزئياً عن ذلك، ومن المرجح أن «يستمر في خلق ردود أفعال وتقلبات مبالغ فيها». كذلك فإن استخدام الخوارزميات، التي تستشعر الإشارات والدور الأكبر لصناديق المضاربة يعد بمثابة وقود محتمل لتقلب أوضاع السوق، كما أن عدم قدرة البنوك على مواجهة الصدمات منذ عام 2008 لا يفيد بالمرة.

علاوة على ذلك يقع محافظو البنوك المركزية تحت رحمة حالة من الشد والجذب في البيانات الاقتصادية كحالنا جميعاً، ومنذ تفشي الجائحة بات مفهوم التوجيهات المسبقة، التي تنطوي على تقديم فكرة عن السياسات المستقبلية، جزءاً من الماضي.

ويقول غريغ بيترز «إن خلفية محافظي البنوك المركزية المعتمدين على البيانات تمهد لخلق اضطرابات في السوق، والهيكل التجاري الجديد في السوق بمثابة وقود يحول هذه الشرارة إلى حريق شامل»، ولهذا السبب من المرجح أن تستمر هذه الأحداث المشتعلة، رغم أنها تلحق أضراراً بسوق الأسهم وائتمان الشركات وحتى أسعار السلع الأساسية.

ويشير إيان ستايلي، من جي بي مورغان لإدارة الأصول، إلى أن هذه الديناميكية تمثل تحولاً عن سنوات ما بعد الأزمة، التي اتسمت بقمع التقلبات؛ بسبب انخفاض أسعار الفائدة وبرامج شراء السندات الرسمية، وأوضح «نحن نشهد الآن شداً وجذباً في السوق التي تشكك في البنوك المركزية، ويبدو أننا نعتمد تماماً على كل نقطة بيانات».

وبالنسبة للمستثمرين من الصعب تحديد أي تحركات في سوق السندات يجب أخذها على محمل الجد، وأيها وهمية، والتي غالباً ما تكون فرصة ذهبية لخبراء السندات، الذين يمكنهم تحديد فرصة الشراء أثناء الانخفاض أو فرصة للبيع في حالة ارتفاعها.

ما هو واضح هو أن فترة الاستقرار الطويلة في سوق السندات، والتي كادت أن تكون مملة، قد ولت. وكان هذا الهدوء استثناء وليس القاعدة. واليوم قد تشهد أسواق السندات اضطرابات مثل أي سوق أخرى.