يشهد القطاع المصرفيّ العالميّ مرحلةً من التطوّر السّريع بدأت بالاتجاه نحو اعتمادِ أحدث الآليات في مجالِ التقنيات الرّقمية الناشئة. ونظراً لاهتمامِ الشركات حول العالم في البحث عن هذه الآليات، فإن الذكاء الاصطناعي باتَ يأخذ حيزا كبيرا من التوجّهات المستقبلية لهذه الشركات.
ويبدو جليا أن السبب وراء هذا الحماس الكبير الذي يظهره القطاع المصرفي لاعتماد هذه التكنولوجيا هو أن من المرجّح أن يحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في طريقة عمل المصارف. لكن الكثيرين غير متأكدين من الدور الذي سيؤديه الذكاء الاصطناعي أو مدى أثر تطبيقه على مستقبل القوى العاملة في القطاع المصرفي.
وشهدت السنوات الأخيرة تطبيق بعض المؤسسات الرئيسة في القطاع المصرفي لحلول التسويق التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وكان ذلك لتعزيز تحليل البيانات لديها وتطوير برامج مؤتمتة للرد على الرسائل بشكل فوري، الأمر الذي يؤدي إلى تسهيل وتسريع عملية خدمة العملاء. ولا شك أن الاستخدام المتنامي للمستهلكين الشغوفين بتقنية الخدمات السحابية وطلبهم المتزايد على تطبيقات المساعدة الافتراضية الذكية سيؤدي إلى زيادة الاستثمار في تلك الحلول المتطورة. وتأثير الذكاء الاصطناعي لم يقتصر فقط على خدمة العملاء فقط، بل امتد ليشمل العديد من الاستخدامات الأخرى في مجالات الأمن السيبراني ومنع عمليات الاحتيال ومكافحة غسل الأموال.
إن هذا الأمر، والذي يقع فيه اللبس غالبا، يمكن أن يثير مخاوف استخدام الآلات عوضاً عن البشر. ولذلك، هل يجب على البشر أن تقلق حيال ذلك؟ ففي حين أنه من المتوقع أن تساهم الأتمتة في تقليل الحاجة إلى أنواع معينة من الوظائف في المستقبل، إلا أن هذه التقنيات الجديدة من شأنها أن توفر كذلك الكثير من فرص العمل الجديدة في مختلف المجالات والقطاعات.
ويتمتع القطاع المصرفي على وجه الخصوص بنظرة مستقبلية متفائلة. فحسب استبيان أجرته أخيراً شركة «أكسينتشور للخدمات الاستشارية»، تبين أن نسبة 77% من المؤسسات المصرفية الرائدة تخطط لاستخدام الذكاء الاصطناعي على مدار السنوات الثلاث المقبلة لأتمتة العمليات إلى أقصى حد ممكن. ويتوقع 67% من الذين أجابوا عن هذا الاستبيان أن يؤدي ذلك إلى زيادة فرص العمل في المؤسسات المصرفية خلال هذه الفترة.
ربما الأهم من كل ذلك الإشارة إلى أن هذه التقنية قد تحدث تغييرا جذريا في الأدوار الوظيفية الحالية حيث يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي لتنفيذ مهام العمل العادية والمتكررة في أية مؤسسة، الأمر الذي يساهم في توفير الوقت لدى الموظفين في مختلف أنواع وظائفهم بما في ذلك خدمة العملاء والموارد البشرية وتقنية المعلومات والتسويق والإدارة، وتدفعهم للتركيز على المهام الاستراتيجية التي تتطلب الإبداع والمواضيع التي تقتضي تدخّل البشر بشكل أكبر.
ويمكن النظر إلى هذا النهج باعتباره «الذكاء المعزز»، أي توظيف التطوّرات التقنية الكبرى التي يشهدها العالم اليوم في قدرة معالجة البيانات وذلك بهدف تطوير التقنيات والأدوات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي لمساندة الجهود التي تبذلها القوى العاملة الموجودة حالياً.
ووضعت الحكومات في دول الشرق الأوسط استراتيجيات رقمية واعتبرتها أولويات رئيسة خلال تنفيذ خطط التنوّع الاقتصادي. ومن المتوقع أن تبلغ مساهمة الذكاء الاصطناعي في اقتصاد المنطقة حوالي 320 مليار دولار بحلول عام 2030.
وتأتي الإمارات في مقدّمة الدول الساعية إلى تطبيق عملية التحول تلك بعد أن كشفت النقاب عن «استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي»، والتي حدّدت الخطط الطموحة للحكومة لخفض التكاليف الحكومية بنسبة 50% وزيادة الناتج الإجمالي المحلي للدولة بنسبة 35%. ويبرز تعيين الإمارات لوزير دولة «للذكاء الاصطناعي» الدور المحوري الذي يؤديه الذكاء الاصطناعي في تحقيق تلك الخطط.
كذلك، فإن عملاء القطاع المصرفي في الإمارات يتعاملون الآن وبشكل يومي مع خدمات معززة بالذكاء الاصطناعي، وتتراوح هذه الخدمات من استخدامهم للمساعِدات الشخصية الافتراضية إلى الروبوتات الآلية ثنائية اللغة والتي يجري استخدامها بهدف تسهيل خدمة العملاء وتلبية الاحتياجات المتنامية لعملاء هذا العصر الشغوفين بالتقنيات.
ولا يمكن التشكيك في قدرة الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل القطاع المصرفيّ ووظائف الكوادر البشرية فيه. لذلك فإن هذا يتطلب من المؤسسات الناجحة أن تركز على الطريقة التي يمكن بها أن تدعم هذه التطورات التقنية للموظفين الموجودين حاليا لمساعدتهم على العمل بذكاء وسرعة أكبر وتحقيق أداء أفضل، ما يتيح لهم زيادة الكفاءة التشغيلية وتعزيز الإنتاجية بشكل عام.
وسيؤدي هذا بدوره إلى دفع عجلة النمو في جميع مناحي الاقتصاد، الأمر الذي قد يخلق المزيد من فرص العمل بما في ذلك العديد من الوظائف الجديدة التي تتطلب مهارات عالية من أولئك المتخصصين في تطويرِ وصيانةِ التقنيات المعنية. ومن ثم، فإن عالما كاملا من الفرص يتواجد الآن بانتظار أولئك المستعدين للسعي لتطوير مهاراتهم التقنية لمواكبة آخر التطورات في مجال التكنولوجيا.
ومِن خبرتي ورؤيتي للقطاع المصرفي، فقد شهدت بروز واندثار العديد من التوجهات سابقا، غير أن الثابت دائما هو أن العنصر البشري سيبقى ضروريا ومهما جدا عندما يتعلق الأمر بصنع القرار. وبينما يواصل الذكاء الاصطناعي نموه ويصبِح أكثر تطورا، ستحقق الشركات أقصى درجات الاستفادة حين تدرك هذه الحقيقة العالمية وتطبق آخر التطورات والتطبيقات في مجال الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإبداع البشري.
Ⅶرئيس اتحاد مصارف الإمارات