ينشغل مزارعو النخيل في هذه الأيام بالحديث عن المدابس "غرف حفظ التمر" إذ يتحدثون في مجالسهم ويشغلهم أمر حفظ تمورهم خاصة حفظ الأنواع الجيدة منها لاستخدامها لاحقا عقب انتهاء الموسم وطوال فصل الشتاء .

وبناء المدابس هي مهنة قديمة درج على امتهانها سكان الإمارات منذ فجر التاريخ وعلى رغم تشابه الشكل العام في بناء المدبسة إلا أن هناك فروق طفيفة في بناءها وهناك نوع من التدرج في بناء المدبسة من الأكثر بساطة إلى المدابس الأكثر تعقيدا.

محمد عامر النيادي مدير إدارة البيئة التاريخية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث تحدث عن المدابس في منطقة العين ..وأشار إلى ان واحات العين المترامية الأطراف كان لها دور كبير في عملية تخزين التمور واستخراج الدبس قبل مائتي عام تقريبا حيث انتشرت المدابس آنذاك ومن أشهرها مدابس القطارة ومدابس واحة هيلي وأهمها مدابس بيت بن هادي ومدابس بيت بن سرور في المعترض وفي المسعودي مدابس المسعودي وهي مخازن للتمور ولاستخراج الدبس في آن واحد ويعود تاريخها من 150 إلى 200 عام مضت تقريبا.

ونوه إلى أنه من خلال التنقيبات التي تقوم بها هيئة أبوظبي للثقافة والتراث تم اكتشاف مدبسة في دلما بالمنطقة الغربية.

من جانبه يؤكد عيسى عباس حسين مراقب المسح والتنقيبات الأثرية في إدارة الآثار بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة على ان المدابس قديمة في الإمارات بشكل أكثر مما يتصوره البعض إذ اكتشفت في العصر الحجري بمنطقة البحيص مجموعة هياكل بشرية من العصر البرونزي في الألف الثالث قبل الميلاد والألف الثاني قبل الميلاد ووجد ان أسنان هذه الهياكل قد تعرضت للتلف جراء التسوس مما يدل على ان السكان في العصر البرونزي تناولوا سكريات أتلفت أسنانهم وقد يعزى ذلك إلى تناولهم الرطب أو التمور والدبس.

ويضيف " في موقع دبا في القرن السابع عشر إلى الثامن عشر تم العثور على مجموعة من الملابس التي تدل على ان عمليات تخزين التمور والحصول على الدبس كانت منتشرة حيث تم اكتشاف من 6 إلى 7 مدابس ".

وتتواصل في الوقت الحالي آخر مرحلة من مراحل فعاليات موسم جني النخيل وهو يسمى محليا "كنز التمور" وذلك وسط مشاركة واسعة من قبل المزارعين حيث يعد موسم كنز التمر في الإمارات موسم فرح سنوي تشارك فيه الأسرة وهو مناسبة اجتماعية واقتصادية مهمة ينتظرها أصحاب النخيل كل عام ليأكلوا التمر شتاءا ويتذوقوا الدبس طوال العام .

أما المواطن علي سعيد الشحي 63 عاما من رؤوس الجبال.. يقول "مذاق الدبس اللذيذ كان سببا في ضياع وظيفتي إذ ولدت في منطقة قدا برأس الخيمة والتحقت بالجيش في بداية شبابي وأمضيت في الخدمة مدة 3 سنوات فقط بعدها عدت وشدني الحنين إلى المدبسة وطعم الدبس اللذيذ ومن شدة حبي

للمدبسة والدبس تعلمت انا وأخواني مهنة أجدادي وتتلمذنا في مهنة تخزين التمر واستخراج الدبس والآن نتقنها بكل تفاصيلها ".

ويضيف " في موسم الرطب نستعد لجمع السح ويسمى موسم السح وفي نهاية موسم الرطب"نهاية فصل الصيف" نستعد لموسم أخر استعداد تملؤه الفرحة أكثر من استعدادنا لموسم جني الرطب وهو موسم حفظ التمر في المدابس ".

وعن أبرز المظاهر الاجتماعية لموسم كنز التمور في الإمارات يقول "يعتبر موسم كنز التمر موسما اجتماعيا ولقاء سنويا حافلا بالعديد من المظاهر الجميلة إذ يحرص السكان على العمل التعاوني بين الأسر والأهل والأصدقاء وكل من يرغب في إيجاد فرص عمل مؤقتة يجدها ويسود هذه الفترة جو من الألفة والتعاون بين أفراد الأسرة الواحدة وكثير من الموظفين يحرصون على الحصول على إجازاتهم في هذه الفترة التي تعد فرصة التقاء اجتماعي من أجل كنز التمور وهي عادة قديمة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا

".

ويواصل الشحي حديثه من أمام مدبسته في رؤوس الجبال وهو ينظر إلى الأسفل حيث واحات النخيل تغطي المكان قائلا.. بعد انتهاء موسم جني الرطب نقوم بيد التمر من النخيل جمع التمر ونضع التمر في " المسطاح"والمسطاح هو مكان مسطح يوضع فوقه عدة دعون يتم نشر أو فرد التمر عليها تحت أشعة الشمس لمدة يومين على الأقل مع مراعاة ان لا يتعرض التمر للجفاف وبالتالي لا يخرج منه الدبس.

ويضيف "من أنواع التمور التي اشتهرت باستخراج الدبس الممتاز منها الصنف المعروف بـ"جش حبش" حيث يعد من أفضل أنواع التمور التي نستخرج منها الدبس وتتركز المدابس في منطقة شعم برأس الخيمة وشمل وفي الجنوب جهة المنيعي وكدرا وخت وأذن ".

يقول الشحي "في الماضي كنا نشيد المدبسة من الجص والجندل الجص عبارة عن حجر محروق يستخدم في المباني قديما والجندل أحد أنواع الأخشاب وتطورت إلى ان أصبحت تشيد الآن من الطابوق والإسمنت وأرضيتها من السيراميك أو الموازييك أو الرخام والجرانيت ".

وأوضح أنها عبارة عن حجرة خالية لا توجد بها فتحات تهوية ويبلغ ارتفاعها 3 قدم يعني طول قامة الرجل والمساحة عادة تختلف من مترين إلى 3 أمتار على حسب كمية التمر الذي يخزن بها وكمية الدبس التي تخرج منه تحتاج إلى تخطيط يشمل عدد وحجم المصبات أو مجرى الدبس .

ويضيف "بعد نشر التمر فوق المسطاح تحت أشعة الشمس نتركه لمدة يومين ننظفه من الشوائب العالقة به ونستخرج منه البسر ثمار النخيل غير الناضجة ويكون وقت العمل عادة مساءا ونكون قد جهزنا اليراب وعاء لحفظ التمر مصنوع من سعف النخيل الذي سنكنز فيه التمر"..

مشيرا إلى ان النساء عادة تقوم بعمل اليراب من سعف النخيل المجفف وتنجر كل يوم يرابين تقريبا "وزاد" نحتاج في الموسم الواحد حوالي 400 يراب نكنز فيهن تمورنا وتشارك المرأة سواء كانت زوجة أو أم في عمل اليراب حيث تنجز من 50   100 يراب في الماضي أما في الوقت الحالي فنشتري اليراب جاهزا من منطقة شمل برأس الخيمة حيث كنا نكنز من كل نخلة يراب أو يرابين على حسب إنتاجها ونكنز مساءا حتى لا يكون السح حارا ويتعاون جميع أفراد الأسرة في هذا العمل ".

ويقول الشحي " يعد جش حبش النوع المفضل والمعروف لاستخلاص الدبس حيث نترك النخلة دون ان نستهلك منها شيء لكي نحتفظ برطبها لليداد ونستهلك للمقيظ الأنواع الأخرى من الرطب مثل الخنيزي واللولو والبرحي والنغال أما نخلة جش حبش فتترك للدبس فقط ".

وتابع " تقوم المرأة بخياطة اليراب بعد ان نكون كنزنا فيه التمر وإغلاقه إغلاقا محكما بواسطة "الدفرة" إبرة الخياطة الكبيرة مستخدمه سعف النخيل في الخياطة ومن ثم نبدأ برص اليراب في صفوف بجوار بعضها البعض إلى ان نصل إلى ارتفاع السقف حيث تتراص الصفوف ويسند بعضها البعض في منظومة واحدة تعبر عن تراص وتلاحم أفراد الأسرة في إنجاز هذا العمل الذي يعد مصدرا للرزق ".

وأشار إلى أن المدبسة قد تتسع حوالي 450 يراب وتستغرق هذه العملية من نهاية فصل الصيف إلى بداية فصل الشتاء حوالي شهر كامل ومن ثم نجمع الدبس من مجراه بوضع خرس في الحفرة المخصصة لجمع الدبس من المصبات حيث يوضع الخرس ويتم جمع الدبس فيه وعادة ما يغطى بقماش يعمل كمصفاة للشوائب وبعد 3 أو 5 أيام بالتحديد نرى الخرس مملوءا بالدبس ونقوم باستخراج الدبس من الخرس بواسطة قدح أو كوز ونحتفظ به في أوعية نحاسية تسمى "محبرة" ونقوم بتسويقه من خلال معارفنا ومن يود ان يشتري يأتي إلينا في بيوتنا ويطلبه وكان ثمنه في الماضي لا يتعدى الخمس روبيات للمن الواحد أما الآن فأصبح يباع بستين درهم للمن.

وعن كيفية التمييز بين النوع الجيد والرديء من الدبس يقول الشحي " يعتمد ذلك على اللون والكثافة فإذا كان غير كثيف وسائلا لينا فهو مخلوط وليس من جش حبش واللون يكون أحمر قاتما كل ذلك دلالة على جودته فإذا كان كثيفا فهو جيد وعند نهاية الموسم تقريبا في شهر اكتوبر نستخرج اليراب من المدبسة بعد ان نتأكد من توقف خروج الدبس وجفافه من المصبات وعادة ما نبيع التمر المجفف كطعام وعلف للحيوانات ونستخرج تقريبا من 400 يراب حوالي 800 لتر دبس ويتوقف ذلك على التمر إذا كان رطبا أو يابسا ".

وعند سؤاله كيف لا يفسد التمر داخل المدبسة خاصة انها مظلمة ولا يدخلها الهواء والشمس.. أجاب " حسب خبرتي وممارستي استطيع ان أجزم ان السعف الذي يصنع منه اليراب به مادة طبيعية فعالة تساعد على حماية التمر من التلف واستطيع ان أؤكد انها مادة حافظة ولكنها طبيعية وليس صناعية ".

وفيما يتعلق بأشهر المدابس قال: أشهر المدابس المعروفة في إمارة رأس الخيمة بني حريميش في منطقة خت وبني عبدالله في غليلة وبن عبود في خور خوير .

وأشار إلى ان كثيرا من العادات الطيبة في هذا الموسم لا تزال موجودة إلى يومنا هذا ومن بينها التصدق بجزء من التمر والدبس لصالح الفقراء والمحتاجين.

وأوضح ان المظاهر الاحتفالية في هذا الموسم هي مشاركة النساء في تنقية الإنتاج ويصاحب العمل أهازيج وأناشيد تراثية تحث على العمل وتشجع على الاستمرار في مواصلة العمل وإنجاز المهمة التي يقومون بها وسط فرحة وابتهاج من قبل الجميع.

ويلتقط ابنه الشاب جاسم البالغ من العمر 25 عاما أطراف الحديث مؤكدا انه الآن يستكمل الإجراءات الخاصة بإنشاء شركة لمنتجات الدبس وتوزيعها وسينتهي منها قريبا نظرا للطلب الكبير على الدبس وخاصة الدبس المنتج من المدابس القديمة إذ يلقى رواجا كبيرا في السوق المحلي .

ومضى يقول " أنا موظف ولكني اعمل مع والدي وقت فراغي واكتسبت خبرة كبيرة في هذا المجال ورأيت ان هذا النشاط مربح للغاية وسيزداد الربح والفائدة إذا قمت بترتيب الأمور وإدارتها بطريقة حديثة واعتبر

مشروع صناعة عسل التمر "الدبس" من أنجح المشاريع في الوقت الحالي ".

من جانبه يقول محمد سهيل المزروعي مدير عام مركز ليوا للتمور "الدبس هو عصارة التمر التي تسيل من التمر بصورة طبيعية بدون تدخل بشري وهذا يعني أننا لا نحتاج لتقنيات معقدة للحصول على الدبس فهو يسيل بصورة طبيعية من المدابس ".

ويضيف "المدبسة هي في الواقع أماكن لتخزين التمر وجمع الدبس فعملية تخزين التمر وجمع الدبس هما عمليتان متزامنتان وذلك أن التمر عندما يتم تخزينه يبدأ الدبس بالسيلان والخروج منه ".

وزاد " الحضارات التي قامت في منطقة الخليج العربي وخصوصا الإمارات عرفت الدبس منذ آلاف السنين ولا يمكننا تحديد تاريخ معين لبداية هذه الصناعة ولكن يمكننا أن نتدرج في تقنية جمع الدبس وتطورها من خلال الآثار التي عثر عليها ".

ويتابع المزروعي " من الملاحظ خلال الخمسة عشر سنة الماضية ان أصبح هناك تطور كبير على صناعة التمور وحفظها ويرجع ذلك إلى التطورات الحديثة والتقنيات التي تم إدخالها في عملية حفظ التمور كما ان العلم له أثر كبير في إضافة أبحاث حديثة لزيادة الإنتاج وتحسينه وأصبح هذا الشيء مطلب أساسي وبالتالي تطورت الصناعات الغذائية بما فيها صناعة التمور والدبس وزيادة أعداد النخيل والتوسع في زراعتها لعب دورا كبيرا في زيادة مخزون التمور من خلال انتشار المصانع في الدولة فهناك مصنع حكومي متمثلا في شركة الفوعة وكذلك مصانع شبه حكومية وخاصة تتراوح من 20-30 مصنعا على مستوى الدولة وكلها تطبق أرقى المعايير الحديثة ".

وأوضح ان التمور سابقا تخزن بطريقة بدائية وبسيطة فكانت تحفظ في اليراب وفي مكان خالي من التهوية أما في الوقت الحاضر فاعتمد التخزين على نظام المخازن المبردة أما الدبس فينتج بالطرق الحديثة بعد ان كان يستخرج بالطرق التقليدية .. مشيرا إلى ان معظم إنتاج الدولة من الدبس يسوق محليا وفي الأسواق الآسيوية .