اشتهرت أميركا اللاتينية بأنها بؤرة للإجرام وسفك الدماء ولا يكاد يمر يوم من غير أن نسمع عن عشرات الجرائم المرعبة التي قضّت مضاجع السكان حتى أصبحت بعض الدول في تلك القارة أشبه بمناطق موبوءة ومفخخة بالمليشيات المسلحة والعصابات ومافيا المخدرات التي عاثت في البلاد قتلاً وإجراماً مستغلة عوامل الفقر وعدم المساواة الاجتماعية المتفشية هناك.
"ميدلين كارتل"، هي أحد أشهر عصابات المخدرات بكولومبيا، تلك التي دوخت رجال التحريات وزعزعت استقرار البلاد، أنشأها السفاح الأميركي والقاتل الملقب ببارون المخدرات "بابلو أسكوبار". لكن الكثير لن يكن معروفاً عنه وظلت قصته غامضة حتى قرر ذراعه الأيمن ومخبأ أسراره أن يخرج عن صمته بعد سنتين من تاريخ مغادرته للسجن.
وما يثير الدهشة والاستغراب هو أن القاتل المحترف المنفذ لعمليات أسكوبار الإجرامية كشف بأنه لم يكن مذنباً في جرائمه التي ارتكبها بل إنه مجرد "ضحية" لإمبراطور المخدرات الأعتى والأسوء سمعة في التاريخ.
جون خايرو فيلاسكيز فاسكيز هو الاسم الحقيقي لمنفذ جرائم الاغتيال التي جعلت ميدلين، ثاني أكبر مدن كولومبيا، العاصمة الأولى في جرائم القتل عالمياً. الرجل الذي يبلغ من العمر 53 عاماً اعترف بقتل 300 شخصاً وأمره بقتل 3000 آخرين، ليصدر عليه حكم بالسجن مدى الحياة بعد أن خلدت جرائمه عهداً أسطورياً من الإرهاب لن تنساه أزقه وجدران كولومبيا.
تاريخ أسود
ويدّعي القاتل الكولومبي الذي يختبأ الآن خوفاً من انتقام أسر ضحاياه بأنه مستعد لإزاحة الستار عن التاريخ الأسود لشبكة ميدلين كارتل التي تضم موردين ومهربين للمخدرات بمدينة ميدلين. وانتشر نطاق عمل هذه المنظمة بين كولومبيا وبوليفيا وبيرو وهندوراس، والولايات المتحدة إضافة إلى كندا وأوروبا بين 1970 و 1980. وخلفت أنشطتها الإجرامية عن قتل 600 من ضباط الشرطة وآلاف المدنيين .
وعلى الرغم من ارتكابه لجرائم غاية في البشاعة والوحشية ذاع صيتها وبثت الذعر في كافة أنحاء كولومبيا، يصر فاسكيز على أن جميع ضحاياه هم قتلى حرب، مدعياً على صفحته التي أنشاها أخيراً على فيسبوك أنه ليس مجرماً، لكن الظروف التي مر بها هي التي جعلته هكذا.
وبحسب فاسكيز، فإن امبراطور المخدرات الذي احتل المرتبة السابعة كأغنى رجل وفقاً لتصنيف مجلة فوربس كان أقوى بكثير من حدود توقع أي شخص حتى تم قتله على إثر مواجهات على السطح مع أفراد من قبل إدارة مكافحة المخدرات في عام 1993.
السيطرة على "داس"
ومن مخبئه الجبلي، قال فاسكيز لمحطة التلفزيون الكولومبية "كاراكول" إن ثروة أسكوبار التي تقدر بـ 20 مليار يورو مكنته من السيطرة على وكالة الاستخبارات التابعة لقسم إدارة الأمن "داس" في البلاد. ووفر القسم الذي تم حلّه في عام 2011 ، الأمن لمؤسسات الدولة والسياسيين وشخصيات الأخرى، فضلاً عن قيامه بدور مشابه لدور مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي.
وأشار فاسكيز إلى أن سيطرة أسكوبار، ملك الكوكايين، على قسم إدارة الأمن بالمشاركة مع كارلوس كاستانيو، قائد ميليشات يمينية، مكنّته من العثور على المعارضين وقتلهم سواء من أفراد العصابات المنافسة أو من السياسيين المتطفلين، مما شدد من قبضة أسكوبار على البلاد.
وبين أنه لولا انخراط "داس" في عام 1980 في عمليات "ميدلين كارتل"، فإن جرائم قتل كثير من السياسيين وتجار المخدرات الذين كانوا ضمن جبهة أعداء "ميدلين كارتل" لم تكن لتحدث. وأفاد فاسكيز: "في عام 1986، وبالتعاون مع البرتو روميرو، سياسي ومرشح للرئاسة الكولومبية وكارلوس كاستانيو، تمكنا من السيطرة على "داس" بما لدينا من أموال، مع العلم أن "داس" تم تمويلها من قبل "ميدلين كارتل ".
رشوة
وعندما تصبح هذه التصريحات مكشوفة للعلن، فإنها ستقع كالصاعقة على رؤس كل من ظنوا أن أجهزة الدولة الاستخباراتية كانت تعمل على القضاء على عهد الجريمة المستشري تحت ولاية اسكوبار. ولأن الرشوة كانت مدخلهم إلى قلب الحكومة الكولومبية، فإن فاسكيز، الرجل الأكثر إخلاصاً وثقة لدى أسكوبار، استطاع تنفيذ عمليات اغتيال جريئة ونوعية لشخصيات رفيعة المستوى بناء على طلب الثاني إلى جانب سلسلة من الهجمات استهدفت أفراد من الحكومة الكولومبية.
جرائم سياسية
طالت جرائم فاسكيز شخصيات سياسية هامة منها جريمة اختطاف وتعذيب رئيس مستقبلي لكولومبيا ونواب الرئيس، كما أنه قام بقتل النائب العام وساعد في حياكة مؤامرة لاغتيال المرشح الرئاسي الكولومبي لويس كارلوس غالان ، والتي تعد الجريمة الوحيدة من بين آلاف الجرائم التي أدين بسببها.
وحتى تاريخ اعتقاله في عام 1992، تلطخت يداي فاسكيز بدماء 250 شخصاً بما في ذلك صديقته المقربة. كما فجر أكثر من 250 سيارة مفخخة إلى جانب تورطه في تفجير طائرة أفيانكا 1989عام رحلة رقم 203، والتي أودت بحياة 107 أشخاص ماتوا لرغبة فاسكيز باغتيال شخص واحد، وهو مرشح رئاسي آخر.
وعلى الرغم من إزهاقه للعديد من الأرواح، ادعى فاسكيز بأنه لم يملك أي خيار سوى الانصياع لأوامر أسكوبار، مشيراً إلى أنه لا يشعر بالذنب تجاه الجرائم التي ارتكبها. وقال: "أنا أيضا ضحية أسكوبار ولست مسؤولاً عن الاغتيالات "، مبيناً أن ما قام به من جرائم لا يحرمه من اليوم.
ترف
وفي منزله الفخم، استمتع زعيم المخدرات أسكوبار بأسلوب حياة فاره جداً إذ كان يملك حديقة حيوانات خاصة تضم 50 فرس نهر مستورد من إفريقيا. إلى جانب ذلك، فإنه ملأ حياته بالسيدات الجميلات وأحاط نفسه بالموسيقين المشهورين. وذكرت تقارير أنه أرسل طائرات هليكوبتر لاحضار الهامبرغر المفضل له. وعلى خلاف جمال الحياة التي كان يحظى بها داخل قصره، فإن شبكة المخدرات التي يرأسها حولت مدينته الأم ميدلين لساحة حرب سوداء، جاعلاً كولومبيا عاصمة القتل والأجرام الأولى في العالم. أدخل أسكوبار الذي جمع ثروته عبر تجارة المخدرات وغسيل الأموال عشرات الآلاف من أطنان الكوكايين إلى الولايات المتحدة ومنها إلى أوروبا، وكانت عصابة أسكوبار تقتل بلا رحمة كل من يحاول إيقاف نشاطه ونشاط التنظيم.
غفران
ويصر فاسكيز على أنه أصبح انسان مختلف بعد عودته إلى الله: "كنت قاطع الطريق الأكثر استعداداً لأي عملية إجرامية في كولومبيا. ومصير أي قاطع طريق إما السجن أو الموت. أعلم أن المجتمع لن يسامحني أبداً، وأني لن أستطيع محو لقب المجرم الذي اكتسبته باستحقاق من عقول الناس، لكن الله يغفر. ومن دون أن يعطي تفاصيل، ادعى فاسكيز أنه يعمل في الوقت الحالي مع نظام العدالة بكولومبيا مضيفاً: "في السجن، تعلمت كيف أعود مجدداً للاندماج في المجتمع ولكن الحرية لم تكن سهلة بالنسبة لي. أشعر بأني حر فقط عندما أذهب إلى الحمام وأرى نفسي في المرآة لأنه لا توجد مرايا في السجن.
وختم بقوله: "في الحياة هناك وقت لكل شيء، هل هناك وقت للقتل، ووقت للندم، ووقت للعقوبة. وأرى أن هذا هو الوقت المناسب لتعويض ما فات ورد الجميل للمجتمع. كل ما أريد القيام به الآن هو أن أحكي قصتي والحقيقة وسأكتفي بذلك."