آندي هالدين - الرئيس التنفيذي للجمعية الملكية للفنون وكبير الاقتصاديين السابق في بنك إنجلترا

قبل قرن من الزمان، لم يكن هناك وجود لأشخاص من أمثالي، خبراء الاقتصاد الكلي، ولم يكن الاقتصاد الكلي في حد ذاته تخصصاً. وقد تطلب الأمر انهيار أسواق الأوراق المالية عام 1929 والكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين لبدء ثورة فكرية وسياسية: الحسابات القومية (الأساس الإحصائي لقياس الاقتصاد)، ونظرية الاقتصاد الكلي (الأساس لفهم الاقتصاد)، وأطر السياسة النقدية والمالية (لمساعدة الاقتصاد على تجنب الاضطرابات المستقبلية).

وبعد مرور قرن من الزمان، وترديداً لكلمات ميلتون فريدمان، عالم الاقتصاد الأمريكي، في ستينات القرن العشرين، أصبحنا جميعاً الآن خبراء اقتصاد كلي.

وتهيمن التحركات للناتج المحلي الإجمالي والتضخم على الخطاب العام، كما تشكل الضرائب والإنفاق الحكومي محور النقاش السياسي وبين العامة. ومع ذلك فإن الخطر الأعظم الذي يواجهنا اليوم ليس تكرار ذلك الانهيار أو الكساد الكبير، رغم أن أياً منهما ليس مستحيلاً. بل هو بالأحرى اتساع «الانقسام الكبير» الذي نشأ داخل المجتمعات وفيما بينها طوال نصف القرن الماضي.

ونحن نرى هذه الانقسامات على المستوى الجيوسياسي في الأعداد المتزايدة من الحروب، الحقيقية وتلك المتعلقة بالتجارة، وسباق التسلح في الإنفاق الدفاعي، وأخيراً التعريفات الجمركية. كما نرى هذه الانقسامات على المستوى الوطني، حيث انخرط الناخبون المنقسمون والمستقطبون في انتخابات متوترة هذا العام. بل ونرى هذه الانقسامات محلياً أيضاً، في تصاعد السخط وانعدام الأمن داخل العديد من المجتمعات، وهو ما أظهرته بشكل واضح للغاية أعمال الشغب الأخيرة في المملكة المتحدة وأيرلندا.

في الظاهر، يصعب تفسير هذه الانقسامات. فليس هناك سابقة في التاريخ كان فيها التواصل البشري، عالمياً ومحلياً، أكثر تشابكاً مما نراه الآن. كما أن تدفقات السلع والخدمات والمعلومات والتمويل والأفراد وصلت إلى مستويات عالية تاريخية أو قريبة منها. ومع ذلك، نادراً ما كانت شبكاتنا أكثر هشاشة. فما الذي يفسر هذه المفارقة؟

لقد قدم روبرت بوتنام، عالم السياسة بجامعة هارفارد، تفسيراً مقنعاً في مطلع الألفية في كتابه «لعب البولينج وحدك». وقد حدد بوتنام فقدان رأس المال الاجتماعي، أي تآكل شبكات الثقة والعلاقات الاجتماعية، وتآكل النسيج الاجتماعي، داخل المجتمعات وفيما بينها، باعتباره الجاني. ووثق بالتفصيل ضعف هذا «الغراء الاجتماعي» في جميع أنحاء الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، والطرق التي تفككت بها المجتمعات.

ويظهر الفيلم الوثائقي الأخير لروبرت بوتنام والذي حمل عنوان «انضم أو مت؟»، أن هذه الأنماط ساءت كثيراً على مدار هذا القرن، ليس فقط في الولايات المتحدة. لذلك، أصبح تفكك النسيج الاجتماعي عرفاً دولياً، فمن نمو دون المستوى إلى تعثر الحراك الاجتماعي، ومن انتشار وباء الوحدة إلى انهيار المجتمعات، يقطع تآكل رأس المال الاجتماعي شوطاً طويلاً في تفسير بعض من أعظم ويلاتنا.

وعلى المستويات الوطني، تشير الأدلة عبر مختلف البلدان إلى وجود علاقة سببية قوية بين رأس المال الاجتماعي والنمو، حتى عندما تؤخذ في الاعتبار رؤوس الأموال الأخرى التي يركز عليها الاقتصاديون في كثير من الأحيان (البشرية والمادية والبنية التحتية). وتأثيرات ذلك كبيرة، فزيادة الثقة بمقدار 10 نقاط مئوية يؤدي إلى رفع الأداء النسبي للاقتصاد بنسبة 1.3 % إلى 1.5 % من الناتج المحلي الإجمالي.

وإذا تمكنت المملكة المتحدة، على سبيل المثال، من تحقيق مستويات الثقة المسجلة بالدول الاسكندنافية، فقد يضيف ذلك 100 مليار جنيه استرليني سنوياً إلى النمو. وإحدى الآليات الرئيسية التي يعمل من خلالها رأس المال الاجتماعي على تعزيز النمو هي آلية فتح الفرص.

وفي هذا السياق، تشير الأبحاث الأخيرة التي أجراها الاقتصادي راج شيتي وآخرون من جامعة هارفارد إلى أن التواصل قد يكون العامل الأكثر أهمية في الحراك الاجتماعي.

وعلى سبيل المثال، فإن تزويد طفل فقير (منقطع الاتصال عادة) بشبكة كالتي يملكها طفل ثري متصل من شأنه أن يعزز احتمالات زيادة دخله على مدى حياته بنسبة 20 %. والقليل من السياسيات، إن وجدت، سواء في مجال التعليم أو غيره، تحقق أيضاً مثل هذا العائد المرتفع.

وهناك تأثيرات كبيرة ودائمة للتدابير الصحية غير المالية، وهو ما تظهر بجلاء إحدى الدراسات الأمريكية التي دامت قرناً من الزمان، حيث تشير إلى أن أفضل مؤشر منفرد لطول عمر شخص ما وسعادته هو نوعية علاقاته أو رأس ماله الاجتماعي. وكما لاحظ الجراح العام الأمريكي فيفيك مورثي، فإن لعبك البولينج وحدك ..يؤدي إلى تقصير متوسط العمر وتآكل الصحة العقلية والرفاهية.

وما ينطبق على الأفراد والأمم ينطبق أيضاً على المجتمعات. ففي أفقر المناطق، يحتل الأمن والتضامن قمة التسلسل الهرمي لاحتياجات السكان. ومن المعروف أن التماسك الاجتماعي والتواصل يقللان من معدلات الجريمة والسلوك المعادي للمجتمع، بل ويبنيان شعوراً بالفخر بالمكان والانتماء.

وهذا ما يجعل رأس المال الاجتماعي أساساً أساسياً في صنع الأماكن الناجحة. وبدون ذلك، فإن المجتمعات ستضمر، أو الأسوأ من ذلك، تكون مرتعاً لأعمال الشغب. واستنزاف رأس المال الاجتماعي له أهمية واضحة في أحد الأبعاد الرئيسية الأخرى، ألا وهو فعالية الحكومة، فشرعية الحكومة وفعاليتها نحتاج بقوة إلى ثقة الجمهور. وهناك حالياً نقص في المعروض على هذا الصعيد.

وقد أثبت الفائزون بجائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام، دارون عاصم أوغلو، وجيمس روبنسون، وسيمون جونسون، أن المؤسسات المتقلصة غير الموثوقة يمكن أن تكون في كثير من الأحيان غير فعالة لدرجة تقود الدول إلى الفشل. وقبل ما يقرب من قرن من الزمان، كانت أزمة الكساد الكبير بمثابة الانفجار الذي بشر سريعاً بثورة في السياسة الاقتصادية.

والانقسام الكبير اليوم هو أيضاً بمثابة ثقب يتسع ببطء، ويقوض مجتمعاتنا بصمت على مدى أكثر من نصف قرن. وقد أدى الإهمال الخبيث لرأس المال الاجتماعي إلى زرع بذور العديد من أكبر المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمكانية اليوم. وسيتطلب عكس هذا المسار قفزة كبيرة في السياسات والممارسات مثلما حدث قبل قرن من الزمان.