مارتن ساندبو

على مر العصور، حملت العملات المعدنية صور الحكام، إذ كان التحكم في إصدار العملة يمثل «سلطة سيادية» تعكس عمق إدارة الدولة وقوتها الجيوسياسية، لكن هذه السلطة أصبحت اليوم تتركز في أيدي البنوك المركزية المستقلة ذات التوجه التكنوقراطي، التي تلتزم بتفويضات محددة يغلب عليها الطابع القانوني.

ومع دخول الاتحاد الأوروبي حقبة جديدة من التحولات الجيوسياسية، يجب عليه التفكير ملياً في كيفية إسهام البنك المركزي الأوروبي في تعزيز مكانته الاستراتيجية، لكن رئيسة البنك، كريستين لاغارد، ألمحت إلى رفضها تحمل هذه المسؤولية، ودفعت بها إلى الآخرين قائلة: «على كل طرف القيام بدوره.. البنك المركزي ليس جهة شاملة الاختصاصات، مهمتنا هي الحفاظ على استقرار الأسعار».

هذا صحيح، لكن اختزال مهمة البنوك المركزية في محاربة التضخم فقط يعد فهماً ضيقاً، وهذا الأمر ينطبق بشكل خاص على البنك المركزي الأوروبي، الذي يملك تفويضين قانونيين واضحين: الأول استقرار الأسعار، والثاني، بشرط ألا يخل بالأول: دعم السياسات الاقتصادية العامة للاتحاد الأوروبي.

وثمّة اهتمام ضئيل جداً بالتفويض الثانوي للبنك المركزي الأوروبي، وكذلك بكيفية استغلال أدوات البنوك المركزية المتنوعة لتحقيق أهداف سياسية أشمل. وفي ظل انشغال القادة الأوروبيين بمحاولات تعبئة الاستثمارات الخاصة الضرورية للتحول الرقمي، والتقنيات المستدامة، والتصنيع الدفاعي، فإن تجاهل دور البنوك المركزية في هذه الملفات يعد قصوراً فادحاً.

وتسعى البنوك المركزية بالفعل لتحقيق أهداف تتجاوز استقرار الأسعار، فمعظمها يضطلع بدور في تنظيم القطاع المالي، بينما يتحمل البنك المركزي الأوروبي مسؤولية جزئية في تعزيز الدور العالمي لليورو. وفي جهوده الرائدة لتطوير العملة الرقمية، يتعامل البنك بجدية مع الأبعاد الجيوسياسية للنقد، مع احترامه لصلاحيات السياسيين المنتخبين لاتخاذ القرارات النهائية، غير أنه من المفيد أيضاً أن يعمل البنك على توضيح أهمية هذه الرهانات الجيوسياسية بشكل أكبر لهم.

النظرية الاقتصادية التي تقوم عليها استقلالية البنوك المركزية التكنوقراطية لا تنطبق على كل مجالات السياسة، فقد فوضنا السياسة النقدية إلى التكنوقراط، لأن محاولة إحداث مفاجآت تضخمية للجهات الاقتصادية الخاصة كانت غير مجدية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن عمل البنوك المركزية يجب أن يكون منفصلاً تماماً عن الأهداف السياسية في المجالات الأخرى.

إذن، كيف يمكن للبنك المركزي الأوروبي أن يسهم بفاعلية أكبر في تحقيق الأهداف الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي؟ هذه الأهداف تتطلب إعادة توجيه الموارد نحو الاستثمار في قطاعات رئيسية، كما أشار تقرير ماريو دراغي، الذي يحظى بتأييد واسع النطاق. ورغم أن البنوك المركزية تدعي حيادها تجاه تخصيص رأس المال، فإن تأثيرها في هذا المجال لا يمكن تجاهله.

وأحد البدائل الممكنة هو الإقراض الموجه، ففي الماضي قدم البنك المركزي الأوروبي عبر أداة «عمليات إعادة الشراء طويلة الأجل الموجهة» تمويلاً للمصارف بمعدلات أقل من سعر الفائدة المعتاد، بشرط تعزيزها للإقراض التجاري (وهو نموذج مستوحى من سياسة «التمويل مقابل الإقراض» التي طبقها بنك إنجلترا سابقاً).

ويمكن لنسخة محدثة من هذه السياسة أن توفر حوافز مشابهة للبنوك التي توسع قروضها في القطاعات الاستراتيجية التي يحددها قادة منطقة اليورو، مثل إزالة الكربون، والابتكار الرقمي، والبنية التحتية الدفاعية، دون اختيار شركات بعينها.

إن نظاماً يقوم على معدلين للفائدة، خصوصاً إذا التزمت البنوك المركزية بالحفاظ على المعدل المستهدف منخفضاً، من شأنه أن يوجه تدفقات رأس المال نحو القطاعات ذات الأولوية التي تحددها الحكومات. وإذا أدت هذه الحوافز إلى تضخم مفرط في الطلب الإجمالي، فسيتم رفع سعر الفائدة الرئيسي للحد من ذلك.

وسيؤدي هذا الإجراء إلى تقليل النشاط في القطاعات غير الأساسية، وهو جزء من عملية إعادة تخصيص الموارد وفق الأولويات الديمقراطية.

أما سياسة العقوبات، فهي مجال آخر تشارك فيه البنوك المركزية. وفي النقاش حول إمكانية مصادرة الاحتياطيات الروسية المجمدة لدفع تعويضات لأوكرانيا، تبنى البنك المركزي الأوروبي موقفاً معارضاً، لكن تفويضه يقتصر على دعم سياسة الاتحاد الأوروبي، وليس صياغتها.

وعلى سبيل المثال، أفادت تقارير بأن الصين هددت بالتخلي عن السندات السيادية الفرنسية إذا دعمت باريس مصادرة احتياطيات موسكو، لذا يبقى على القادة الفرنسيين وقادة الاتحاد الأوروبي اتخاذ القرار بشأن كيفية الرد.

لكن البنك المركزي الأوروبي يمتلك أداة «حماية انتقالية» تهدف إلى حماية الحكومات في منطقة اليورو من أزمات التمويل الناتجة عن أسباب سياسية. وينبغي أن يعلن البنك عن استعداده لاستخدام هذه الأداة ضد أي هجوم سياسي على السندات السيادية، ما يمنح الحكومات مرونة أكبر للتحرك.

إن مثل هذه الخطوات تتطلب دعماً ديمقراطياً، لكن الخطر الحقيقي يكمن في الوقوف مكتوف الأيدي بتجاهل الإمكانات الجيوسياسية للبنوك المركزية.