جون بيرن مردوخ
الشعبوية هي الفائزة في التحول من وسائل الإعلام التقليدية إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومن النصوص المكتوبة إلى الصوت والفيديو
أتاح التنقل في وسائل النقل العام دائماً فرصة مناسبة لتقييم الأشكال المتغيرة لاستهلاك الوسائط الإعلامية.
فقبل سبعين عاماً، كنت سترى حشوداً من الرؤوس المختبئة في الصحف، بينما حدث تحول هائل منذ حوالي 15 عاماً، لنرى الكثير والكثير من العيون الملتصقة بالشاشات. وللوهلة الأولى، تبدو الصورة اليوم متشابهة، لكن هذه الملاحظة تغفل فارقاً بسيطاً. ففي السابق، كانت تلك الشاشات تميل إلى عرض الكلمات؛ أما الآن فستلمح تدفقاً لا ينتهي من مقاطع الفيديو القصيرة.
إن صناعة الطباعة في تراجع متواصل لعدة عقود من الزمن، في ظل انخفاض كبير في استهلاك أي أخبار مكتوبة على الإطلاق. لذلك، انخفضت نسبة البالغين الذين يقرؤون المقالات الإخبارية على الإنترنت في الولايات المتحدة من 70% إلى 50% منذ عام 2013.
وتضخمت حصة البريطانيين والأمريكيين الذين لا يستخدمون الآن وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية على الإطلاق من 8% إلى نحو 30%. وفي حين يمثل تراجع المطبوعات في الأساس مشكلة تتعلق بالمحصلة النهائية للصحف، فإن الانخفاض في استهلاك الأخبار بالكامل يمثل مشكلة للمجتمع بأسره.
ولا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت لها الهيمنة الآن، فالبالغون في الولايات المتحدة الذين تقل أعمارهم عن 50 عاماً يحصلون في الغالب على الأخبار مباشرة من قنوات التواصل الاجتماعي أكثر من احتمالية حصولهم على أخبارهم من المقالات الإخبارية سواء كانت مطبوعة أو عبر الإنترنت، وذلك وفقاً لأحدث تقرير للأخبار الرقمية صادر عن معهد رويترز لدراسة الصحافة. ومن الواضح أن الاتجاهات في معظم البلدان الأخرى مماثلة.
ولهذه التحولات عواقب وخيمة، وقد بدأنا للتو في تقدير بعضها. فعلى المستوى الأساسي، حدث انتقال واضح من المقالات التي تتكون من بضع مئات من الكلمات إلى 280 حرفاً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وهو ما يعني ابتعاداً حتى عن القدر المتواضع من التفاصيل والدقة في التقارير الإخبارية العادية إلى عالم محوره لقطات مفرطة في التبسيط. ولم يعد هناك مجال لإلقاء حتى نظرة على التعقيدات وراء الأحداث.
ولا يتعلق فقط بالأشكال القصيرة، فقد دفعت التعليقات الفورية في شكل عدد الإعجابات والمشاركات الكثيرين لأن يشكلوا قناعات بأن المحتوى الأفضل أداءً يحتاج بشكل عام لأن يكون مبالغاً فيه وعدائياً وليس معتدلاً ودقيقاً.
وأصبح المشهد الإعلامي الناشئ غير مواتٍ بالمرة للمجموعات الوسطية المتعلمة والمثقفة، ولكنه كان بمثابة نعمة كبيرة للشعبويين والراديكاليين.
ويمكن القول إن المرحلة الأخيرة من التحول بالوسائط الرقمية نحو التصاعد المتسارع بل والطاغي لمقاطع الفيديو القصيرة، يمثل تغييراً هائلاً. وأصبحت منصات مثل «تيك توك» و«إنستغرام» يتقزم أمامها الآن «فيسبوك» و«إكس» و«بلوسكاي» خاصة بين الشباب، كما يجري التحول نفسه بين البالغين.
وهذه المنصات مختلفة جوهرياً. لا تزال وسائل التواصل الاجتماعي القائمة على النصوص تفضل الصحافة السائدة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الكتابة البليغة تساعد كثيراً في هذا السياق. هذا إلى جانب السبق الزمني للأخبار.
لكن مع انتقال التركيز إلى الفيديو، يميل الميزان في اتجاه آخر. ففي «تيك توك» و«إنستغرام»، العملة الرابحة هي الكاريزما والطاقة وطريقة التوصيل. وباتت مسألة أن تكون الأول أقل أهمية بدرجة كبيرة من أن تكون الأكثر تفاعلاً.
ويتجلى ذلك في المزيد من بيانات رويترز التي تظهر أنه حتى عندما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي في تفكيك المواقع الإخبارية، فإن أبرز الحسابات الإخبارية على المنصات الاجتماعية النصية لا تزال تستند إلى الصحفيين والمؤسسات الإخبارية السائدة.
أما في عالم الفيديو، فالغالب أن يلجأ الأشخاص إلى المؤثرين ومنشئي المحتوى أكثر من المصادر التقليدية، والأمر هنا لا يقتصر على المحتوى المتعلق بنمط الحياة بل أيضاً بالأخبار.
إن وسائل الإعلام الناشئة تبدو بحكم تعريفها أقل ارتياحاً مع السياسيين المرتبطين بالمؤسسات الراسخة، واستقلالها عن العلامات والأسماء الكبرى يعني أيضاً أنها حرة في استضافة ونشر ما لا تسمح به وسائل الإعلام الرئيسية.
وتظهر الأبحاث أن أحدث فئة من المؤثرين في عالم الأخبار يميلون إلى اليمين فيما يتعلق بسياساتهم، وحتى أولئك الذين يتبنون سياسات مختلفة هم أيضاً مناهضون للمؤسسات الراسخة.
في الوقت نفسه، تمثل التحولات في كيفية استماع الناس إلى الأخبار جزءاً من نفس النمط. ويعد البث الصوتي عبر منصات البودكاست، حيث القاعدة هي الاستماع الخاص عبر سماعات الأذن، وحشاً مختلفاً تماماً عن الراديو الذي تشكلت ثقافته ومحتواه في عصر قد يستمع فيه الزوجان أو العائلة معاً له في السيارة أو المطبخ. ومع هذا التحول، يتم تقديم صورة مجزأة بدرجة أكبر مع مخرجات أكثر إثارة للجدل.
عموماً، من حيث الشكل والوظيفة، والنبرة والحوافز الداخلية، يختلف المشهد الإعلامي في عام 2024 كلياً عنه في عام 2014، ناهيك عن عام 2004 أو 1994. وسيكون من الغريب حقاً ألا يكون لهذا تأثير على سياساتنا.