جيليان تيت
تدخل واشنطن مجدداً في دوامة سياسية كبيرة، ففي الأعوام الأخيرة، اشتدت المناورات السياسية في كل مرة يحاول فيها الكونغرس رفع سقف الدين، وغالباً ما هددت أصوات اليمين بإغلاق الحكومة لتحقيق مطالبها.
وها نحن عدنا إلى المشهد ذاته، حيث حاول مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الجمهوري، منذ أيام تمرير مشروع قانون مؤقت لرفع سقف الدين بميزانية 6.75 تريليونات دولار، لكنه قوبل بمعارضة شرسة من الرئيس المنتخب دونالد ترامب وأنصاره، ومن بينهم إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي. وكتب ماسك على منصة «إكس»:
«لا ينبغي أن يُمرر هذا القانون»، مما أدى إلى جولة جديدة من المفاوضات المستميتة في ظل تهديدات بإغلاق الحكومة. وهنا، يجب أن يضع المستثمرون في اعتبارهم ثلاث نقاط رئيسية:
-الأولى أن الانتصار الساحق الذي حققه ترامب الشهر الماضي يعني أن المعركة السياسية الحاسمة في عام 2025 لن تكون بين الديمقراطيين والجمهوريين، بل داخل الحزب الجمهوري نفسه.
-الثانية ستكون هذه المواجهة الداخلية بين الجمهوريين شرسة للغاية، فشخصيات مثل ماسك وراماسوامي تسعى للفت الأنظار من خلال انتقاد الجمهوريين في الكونغرس، وعلى رأسهم جونسون الذي بدا عاجزاً عن الرد.
- الثالثة، أن السياسة المالية ستتصدر مشهد الخلافات في وقت مبكر، خصوصاً مع ارتفاع عائدات السندات نتيجة لخفض الاحتياطي الفيدرالي توقعاته لخفض أسعار الفائدة في عام 2025.
ولن تقتصر هذه المواجهة على واشنطن فقط، بل ستمتد إلى مارالاغو، معقل ترامب السياسي، حيث تختلف آراء حلفائه حول كيفية التعامل مع الدين الوطني الأمريكي البالغ 36 تريليون دولار.
ويرى البعض أنه لا داعي للذعر بشأن هذا الحجم الكبير من الديون، بحجة أن مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية ستدفع المستثمرين العالميين إلى الاستمرار في شراء سندات الخزانة الأمريكية. ويبدو ترامب مؤيداً لهذا الطرح، حيث دعا إلى إلغاء سقف الدين.
من جانبهم، يشعر آخرون حوله، مثل ستيف بانون، كبير استراتيجيي البيت الأبيض السابق، بقلق أكبر. والسبب في ذلك، أن وزارة الخزانة ستحتاج إلى إعادة تمويل حوالي 9 تريليونات دولار من السندات العام المقبل في وقت تتصاعد فيه الضغوط التضخمية.
كما أن تعهدات ترامب بإجراء تغييرات سياسية قد تضيف تريليونات أخرى إلى الدين العام، إلى جانب تهديداته بإضعاف قيمة الدولار وتقويض استقلالية الاحتياطي الفيدرالي.
وهذا المشهد مقلق للغاية، كما يراه سكوت بيسنت، مرشح ترامب لوزارة الخزانة. وما يزيد الوضع سوءاً، هو اعتماد سوق السندات بشكل متزايد على صناديق التحوط المتقلبة، إضافة إلى النفوذ الصيني المتزايد.
وكان قرار بكين الأخير بإصدار سند سيادي بقيمة 2 مليار دولار في السعودية، رغم صغر حجمه، خطوة رمزية تهدف إلى إزعاج واشنطن، لا سيما أن العائد كان مشابهاً لعائد السندات الأمريكية.
الشق الثاني من الخلاف داخل مارا لاغو يتعلق بالضرائب، فقد تعهد ترامب مراراً بجعل قانون تخفيضات الضرائب وفرص العمل لعام 2017 قانونا دائماً، وهو القانون الذي قدم إعفاءات ضخمة على ضرائب الدخل والعقارات.
وهذا الإجراء من شأنه أن يحقق فوائد ضخمة للأثرياء، لا سيما فريقه الذي يضم عشرات المليارديرات. كما يخطط ترامب لخفض الضرائب على الشركات من 21% إلى 15%، وإلغاء الضرائب على مدفوعات الضمان الاجتماعي والإكراميات والعمل الإضافي، بالإضافة إلى توسيع الاعتمادات الضريبية لرعاية الأطفال.
وبحسب ما علمت، فإن بيسنت وآخرين أبلغوا ترامب أن الفجوة المالية الناجمة عن هذه الإجراءات يمكن سدها من خلال تسريع النمو الاقتصادي، وعائدات الرسوم الجمركية.
إضافة إلى تخفيض الإنفاق الحكومي بقيمة 2 تريليون دولار الذي وعد به إيلون ماسك، وهناك أيضاً اقتراحات بزيادة الضرائب على المؤسسات الثرية، لكن، سيكون من الصعب تقليص الإنفاق الحكومي بشكل كبير دون المساس بالضمان الاجتماعي والدفاع.
وهو أمر يبدو أن ترامب يتحفظ عليه. كما أن عائدات الرسوم الجمركية لا تزال غير مضمونة، إذ قد يستخدمها ترامب كورقة ضغط جيوسياسية أكثر من كونها مصدر دخل.
إضافةً إلى ذلك، من المستبعد أن يتمكن النمو وحده من سد الفجوة المالية. كما أن تكاليف خدمة الدين قد ترتفع أكثر من المتوقع، بالنظر إلى إشارات الاحتياطي الفيدرالي بشأن تباطؤ وتيرة خفض أسعار الفائدة.
هذه المعطيات دفعت ستيف بانون إلى المناداة بإجراءات أكثر جذرية، مثل زيادة الضرائب. «ستضطرون إلى رفع الضرائب على الأثرياء... - لتحقيق - السيطرة على الدين الخارج عن السيطرة»، هذا ما صرّح به خلال عشاء جمهوري منذ أيام. نعم، قالها حرفياً.
ويرى ستيف بانون أن حادث اغتيال مسؤول في قطاع الرعاية الصحية مؤخراً يعكس حالة الغضب الشعبي المتزايد ضد النخبة، مما يجعل الضغط على الطبقة المتوسطة لصالح الأثرياء بمثابة انتحار سياسي لترامب.
كما يرى أن تجاهل أسواق السندات سيكون مجازفة كبيرة. ويقول بانون «سيتعين على المحافظين النيوليبراليين دفع ثمن ما حدث»، في إشارة إلى أن «القوميين الشعبويين» يجب أن يتغلبوا على «الجمهوريين التقليديين».
ورغم صحة تحليل بانون بشأن الغضب الشعبي، فإن المعضلة التي يواجهها ترامب تكمن في أن رفع الضرائب على الأثرياء سيؤدي إلى غضب الجمهوريين «التقليديين» في الكونغرس، بالإضافة إلى استياء رجال الأعمال الأثرياء الذين دعموا حملته.
وهنا يبرز السؤال الذي تبلغ قيمته 36 تريليون دولار (حجم الدين الأمريكي): من سينتصر في هذه المواجهة، الأثرياء أم الشعبويون؟ وهل ستظل أسواق السندات مستقرة أثناء هذه التطورات؟ بعبارة أخرى، قد تكون المواجهة الحالية حول سقف الدين مجرد بداية لمعارك أكبر وأكثر حدة في عام 2025.