مارتن ساندبو
تمر أوروبا بلحظة مفصلية، وكذلك ألمانيا. فمن الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يذهب إلى أي مكان، دون موافقة أكبر اقتصاداته على السير في الاتجاه نفسه. وهذا أمر صعب، لكنه ليس مستحيلاً، كما اتضح خلال الموافقة على فرض تعريفات جمركية على السيارات الكهربائية الصينية، في تحدٍّ واضح لمعارضة برلين.
وما دامت ألمانيا لا تعرف ما تريد، فسيظل الاتحاد الأوروبي يعاني لاتخاذ أي خطوة كبيرة إلى الأمام. (لهذا السبب يكمن أملي في تحالفات أصغر). وارتباك ألمانيا أمر صادم. إن عدم قدرة البلاد على تحديد ما تريد أن يكون عليه مستقبلها هو أحد الأسباب التي تجعل الحكومة التي وعدت بكثير من التجديد عند انتخابها قبل ثلاث سنوات تتعرض الآن لانتقادات على نطاق واسع بأنها غير قادرة على أداء مهامها. ولعل هذا الشعور بالانحراف عن المسار هو أحد أسباب استمرار الركود الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد.
أكتب اليوم عن حدثين وقعا مؤخراً، يشيران بشكل واضح للانقسام الموجود في الرأي العام وبين النخبة الألمانية بشأن الاتجاه الذي يجب أن تسلكه البلاد، وأوروبا أيضاً، ليس اقتصادياً فحسب، بل جيوسياسياً أيضاً.
وكما ذكرت سابقاً، فقد قضيت بضعة أيام في حوار برلين العالمي، التجمع المذهل الذي يضم قادة ألماناً وأوروبيين ورواد أعمال عالميين، إضافة إلى مسؤولين سياسيين. وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أحد الحضور، وكذلك وزراء من الحكومة الألمانية والعديد من البلدان الأخرى. وكان إريك نيلسن، الخبير الاقتصادي لدى «يونيكريديت»، أحد الشخصيات البارزة التي تحدثت إليها، وقد نشر مُذكرة منذ أيام تُضفي طابعاً إيجابياً مُتفائلاً عن المؤتمر.
ودارت النقاشات حول «إعادة بناء أسس مُشتركة»، و«التركيز على مجالات التعاون المُمكنة»، بدلاً من عدم التعاون على الإطلاق، و«التقريب بين وجهات النظر المحلية المُختلفة».
وقد استخلص نيلسن وجود تقارب بين وجهات النظر الفرنسية والألمانية رغم التباين. أما أنا فوجهة نظري أقل تفاؤلاً بكثير، حيث يُمكن القول إن «تضييق هوة الاختلافات» يعكس التشوق إلى العودة إلى عالمٍ أقل تأثراً بالخلافات الجيوسياسية، أو على الأقل عالم لا تتدخل فيه الجغرافيا السياسية في طريق الأعمال.
وإضافة إلى أوجه القلق من فقدان الوصول إلى السوق الصينية، كانت المحادثات التي أجريتها على هامش المؤتمر مليئة بالتمرد على الأعباء التي تشعر الشركات بأنها مفروضة عليها باسم إزالة الكربون وغيرها من القضايا الجيدة. وكانت الأفكار التي هيمنت على هذه النقاشات هي ضرورة إزالة القيود التنظيمية، والتبسيط، وتنحي الحكومات، على المستويين الوطني والاتحاد الأوروبي، جانباً عن طريق الأعمال. وتمارس برلين ما تدعو إليه، فمررت الحكومة «مبادرة النمو» وهي حزمة من الإصلاحات الهيكلية، التي تأمل زيادة معدلات النمو على المدى الطويل بمقدار 0.5 نقطة مئوية، الأمر الذي يتبنى فيه خبراء اقتصاد مستقلون وجهة نظر أقل تفاؤلاً.
واستمعت إلى دعوات كثيرة عن «الحياد التكنولوجي»، ويذهب ذلك إلى الموافقة على إزالة الكربون، لكن دون تفضيل تقنية بعينها على الأخريات. ومن الصعب عدم ملاحظة ذلك في سياق الصعوبة التي تواجه ألمانيا مع التحوّل إلى المركبات الكهربائية ومحاولاتها المضنية لأن يكون هناك مستقبل ما لتصنيع سيارات محركات الاحتراق الداخلي.
لقد غادرت ألمانيا، ويملؤني اعتقاد قوي بخشية النخبة الألمانية من المستقبل وأنها تلوذ بالطريقة التقليدية التي لطالما حققت بها البلاد تقدمها. لكنني سمعت لهجة مختلفة تماماً من الجانب الألماني الآخر، عندما ألقت إيزابيل شنابل، عضوة مجلس إدارة المصرف المركزي الأوروبي، محاضرة بمعهد والتر يوكين في فرايبورغ، أبرز محافل الليبرالية الألمانية، في ذات يوم حوار برلين العالمي.
وتمحورت الكلمة التي ألقتها شنابل حول سبل هروب منطقة اليورو من براثن الركود. وبإمعان النظر في كلمتها، وجدت أن أقوى رسائل شنابل كانت مُوجّهة إلى ألمانيا، فقد حذرت البلاد من مقاومة التغيير الذي شعرت به خلال وجودها في برلين. تُعرف شنابل باعتيادها تحطيم الشعارات الألمانية من مواقع رمزية. وأذكر أنها ألقت كلمة ذات مرة في مدينة كارلسروه دفاعاً عن المركزي الأوروبي، المدينة التي تتخذ منها المحكمة الدستورية الألمانية مقراً لها، وتُعرف بمعارضتها لمنحى المصرف. وفي ما يلي محاولة مني لتسليط الضوء على ما عرضته شنابل:
أولاً، أصبحت ألمانيا عبئاً على نمو الاتحاد الأوروبي بعدما كانت قاطرة نموه. فقد تعافت منطقة اليورو ككل بعد جائحة فيروس كورونا باستثناء ألمانيا. وأصبح أكبر اقتصاد في التكتل، جزءاً من المشكلة بكل وضوح، وليس الحل. وحتى بالنظر إلى الإنتاج الصناعي فقط، فإن أداء ألمانيا بعد عام 2021 هو من بين الأسوأ في منطقة اليورو.
وعلى صعيد السلع الرأسمالية على وجه الخصوص، عكست الرسوم البيانية التي عرضتها شنابل إنتاج ألمانيا قدراً أقل منها اليوم مقارنة بنهاية عام 2021، خلافاً لفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وهولندا. وذهبت إلى أن هذا التفاوت يعني عدم إمكانية إلقاء اللوم على السياسة النقدية المتشددة للمركزي الأوروبي في الضعف الصناعي. لا أتفق مع هذا، فبينما لا تبرر الفائدة المرتفعة ذلك التباين في الأداء الصناعي في ربوع دول اليورو، لكن من المؤكد أنها أسهمت في الانكماش الصناعي الكلي لمنطقة اليورو، الذي تجدر الإشارة إلى كونه هائلاً، مثلما هو الحال في ألمانيا.
وتبين أن الطفرة الصناعية الألمانية المدفوعة بالصادرات في العقدين الأولين من هذا القرن كانت تستند إلى اعتماد محظوظ على مزيج مواتٍ من قطاعات التصدير والشركاء التجاريين. وكانت الأمور لتبدو أكثر سوءاً، لو كانت القاعدة الصناعية لأوروبا وعلاقاتها التجارية مماثلة للموجودة في الولايات المتحدة، الأمر الذي يحدث بالفعل منذ عام 2019.
وكانت هذه طريقة أخرى للقول «إن نموذج النمو الخاص بك قد مات، ويرجى المضي قدماً بدلاً من محاولة إحياء جثة». وتتمثل رصاصة الرحمة التي أطلقتها شنابل في تسليط الضوء على الاستثمارات الصينية في سعة الشحن للسيارات الكهربائية، وقالت: «يُتوقع أن يزيد عدد المركبات الكهربائية المتاحة للتصدير 1.7 مليون سنوياً بحلول عام 2026. وإذا ما أردنا وضع الأمور في سياقها، فإن إجمالي المركبات الكهربائية المُباعة في أنحاء الاتحاد الأوروبي خلال عام 2023 بلغ 2.5 مليون وحدة».
إذن، الوقت ينفد لاستكمال التحوّل الهائل لإنتاج السيارات الكهربائية في أوروبا. لكن، توجد بعض الابتكارات التي يسبق الاتحاد الأوروبي فيها بقية العالم، وهي المتعلقة بالتكنولوجيا الخضراء. من حيث حصة أوروبا من سوق التصدير العالمية، يوثق خطاب شنابل أن منطقة اليورو لا تزال في الواقع متقدمة على الصين في مجال السيارات الكهربائية والهجينة (30 في المائة مقابل 16 %)، وقد تقدمت (من 18 % في عام 2017) حتى مع تراجعها في مجال السيارات الكهربائية والهجينة (من 30 إلى 24 %).
إذن، هناك رؤيتان للمضي قدماً. إحداهما ترغب في إحداث قطيعة تامة مع الماضي - والمخاطرة بالقطيعة مع بعض الشركاء التقليديين. والأخرى تأمل إنقاذ واستعادة نموذج اقتصادي يعاني منذ فترة طويلة بما في ذلك عزل الأعمال التجارية عن الجغرافيا السياسية. أنا شخصياً لا أثق كثيراً بواقعية الاستراتيجية الثانية. ولكن في كلتا الحالتين، سيعتمد الكثير على الطريقة التي ستتخذ بها ألمانيا قرارها.