جويل سوس
في أعقاب الخفض الثاني لأسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية في 12 سبتمبر سارع صناع السياسات في البنك المركزي الأوروبي إلى الإعلان عن أنه من غير المرجح إجراء خفض آخر في أكتوبر، وقد لخص العضو المؤثر، فيليب لين، موقف البنك المركزي الأوروبي الحالي بأنه «نهج تدريجي لتخفيف القيود المفروضة على السياسة النقدية، شريطة توافق البيانات الاقتصادية الواردة مع التوقعات الأساسية».
ومع ذلك فإن البيانات الاقتصادية الضعيفة الصادرة الأسبوع الماضي وتسجيل معدلات التضخم انخفاضاً أكبر من المتوقع يختبران النهج التدريجي، الذي يتبعه البنك المركزي الأوروبي، ويعززان توقعات السوق بإجراء خفض آخر خلال أكتوبر الجاري.
ومنذ أيام أظهرت مسوحات مؤشرات مديري المشتريات في منطقة اليورو انخفاضاً حاداً وغير متوقع في النشاط الاقتصادي، وكان هذا الانخفاض واسع النطاق، لكن دخول فرنسا في منطقة الانكماش كان هو الحدث الأبرز، ولا ينبغي تجاهل هذه المسوحات بوصفها مجرد إشارة سلبية، إذ يشير التحليل الأخير للبنك المركزي الأوروبي إلى وجود ارتباط وثيق بين مؤشرات مديري المشتريات والنمو اللاحق للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
وجاءت بيانات التضخم في فرنسا وإسبانيا لتفاجئ الجميع بانخفاض حاد. وتؤكد التقديرات الأولية للتضخم في منطقة اليورو انخفاضاً أكبر من المتوقع في معدل التضخم الرئيسي لشهر سبتمبر إلى 1.8 %.
ومطلع الأسبوع الماضي كانت أسعار السوق تشير إلى أن احتمالات خفض الفائدة في أكتوبر أقل من 30 %، لكن بحلول نهاية الأسبوع ارتفعت إلى أكثر من 80 %. وأكسبت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاجارد، خلال شهادتها أمام البرلمان الأوروبي، فكرة خفض الفائدة في أكتوبر الجاري المزيد من القبول، مؤكدة أن «التطورات الأخيرة تعزز ثقتنا بأن التضخم سيعود إلى المستويات المستهدفة في الوقت المناسب»، فهل هناك بعد ذلك مبرر لتباطؤ وتيرة خفض أسعار الفائدة؟
يشير الأعضاء المتشددون في البنك المركزي الأوروبي في هذا السياق إلى زيادات الأجور المستمرة، التي تؤثر على أسعار الخدمات، لكن النظر عن كثب إلى البيانات يكشف عن وضع أقل مدعاة للقلق، كذلك فإنه من الواضح أن الزيادات الأخيرة في تضخم قطاع الخدمات بمنطقة اليورو ترجع أساساً إلى عناصر لا تتأثر بالأجور، وهذا يمهد الطريق إلى تسريع وتيرة خفض الفائدة في منطقة اليورو.
من جانبه كان رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جاي باول بارعاً في شرح قرار خفض الفائدة بمقدار نصف نقطة في سبتمبر، حيث كان القرار يبعث على الثقة. وقال باول: إن «الاقتصاد الأمريكي في وضع جيد، فالتضخم في تراجع، وسوق العمل قوية، ونأمل الحفاظ على هذا الوضع»، وكانت المخاوف من أن يؤدي إجراء خفض أكبر من المتوقع إلى اضطراب غير مبرر للأسواق.
واعترف باول بأن تباطؤ سوق العمل كان مصدر قلق لصناع السياسات في الاحتياطي الفيدرالي، لكنه أكد أن ثقة الاحتياطي الفيدرالي في عودة التضخم إلى المستوى المستهدف على نحو مستدام سمحت باتخاذ هذا القرار.
ومع ذلك لا يتفق الجميع على فكرة التغلب على التضخم، فقد أصبحت ميشيل باومان أول عضو في الاحتياطي الفيدرالي يعبر عن معارضته خلال عقدين، وهي ترى ضرورة إبطاء وتيرة تخفيف السياسة النقدية. وأوضحت أن «تسريع وتيرة خفض الفائدة يحمل في طياته أخطار إطلاق الطلب المكبوت»، مشيرة في هذا السياق إلى «الأخطار الملحوظة لارتفاع التضخم».
وبالفعل فإن تعافي التضخم أمر ممكن، وقد يحدث في وقت أقرب مما يتوقعه الكثيرون، وتشير الأبحاث الأخيرة القائمة على بيانات مفصلة عن المعاملات المصرفية إلى أن الصدمات الخاصة بالسياسة النقدية قد تخلف تأثيرات كبيرة وفورية، وهو ما يتناقض مع الرأي القائل إن السياسات لا تعمل إلا خلال «فوارق زمنية طويلة ومتغيرة». وفي مقابلة مع صحيفة فاينانشال تايمز اتفق ألبرتو موساليم من الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس مع هذه الحجة، مشيراً إلى أن الاقتصاد الأمريكي قد يستجيب «بشكل حاد» للظروف المالية الأكثر تيسيراً.
ويبدو أن الاحتياطي الفيدرالي منقسم حيال الوتيرة المناسبة للخفض، وكذلك السوق، فقد أشارت أسعار العقود الآجلة إلى احتمال بنحو 60 % لإجراء خفض آخر بمقدار ربع نقطة مقابل احتمال بنحو 40 % بخفض الفائدة بمقدار نصف نقطة في نوفمبر. ولم تحسم بيانات التضخم لشهر أغسطس النقاش، حيث جاء المعدل الرئيسي أقل بقليل من المتوقع عند 2.2 %، لكن التضخم الأساسي (باستثناء الغذاء والطاقة) بلغ 2.7 %.
ويتوافق وصف باول لسوق العمل القوية لكن المتباطئة مع البيانات، وقد شهدت الولايات المتحدة نمواً اقتصادياً قوياً وملحوظاً على مدى الأرباع الماضية، وبعد مراجعة تقديرات الناتج المحلي الإجمالي تبين أن النمو أقوى مما كان يعتقد في البداية. وبين عامي 2021 إلى 2023 تم تعديل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بزيادة تراكمية قدرها 1.2 %.
وأعتقد أن هذا يبرر بطء وتيرة التيسير، فالسوق تتوقع إجراء المزيد من التخفيضات بمقدار 0.75 نقطة على الأقل بحلول نهاية العام، ومع ذلك أرى أن هذا أكثر مما سينفذ على الأرجح، في ظل الظروف الاقتصادية القوية الحالية وسوق العمل القوية.
وقد أكد باول توقعاته بإجراء خفضين بمقدار ربع نقطة، لكن ثمة قدر كبير من البيانات القادمة التي يتعين استيعابها قبل الاجتماع المقبل للاحتياطي الفيدرالي الذي سيعقد يوم 7 نوفمبر، بدءاً من بيانات الأجور والبطالة لشهر سبتمبر، التي ستصدر الجمعة. كما أن بنك إنجلترا تبنى «نهجاً تدريجياً في خفض الفائدة» على غرار البنك المركزي الأوروبي.
وبعد تنفيذ أول خفض للفائدة في أغسطس قررت لجنة السياسة النقدية عدم إجراء أي تغييرات في سبتمبر. ويشعر الأعضاء المتشددون في اللجنة بالقلق بشكل خاص بشأن دوامة ارتفاع الأجور والأسعار.
وكما حدث مع تضخم قطاع الخدمات في منطقة اليورو، وعند تقسيم خدمات مؤشر أسعار المستهلك إلى عناصر حساسة للأجور وأخرى لا تتأثر بالأجور، يبدو الوضع في المملكة المتحدة مختلفاً تماماً عن منطقة اليورو - فقد كان تضخم الخدمات المتأثر بالأجور يتزايد باطراد بمرور الوقت، بينما انخفض تضخم الخدمات غير المتأثر بالأجور. ولدى المتشددين في لجنة السياسة النقدية أسباب أخرى تدعو إلى القلق، وهو ما يبرر قرار بنك إنجلترا بالتحرك بوتيرة أبطأ.
وفي حين تفكر معظم البنوك المركزية في خفض الفائدة فإن بنك اليابان في وضع مختلف، فبدلاً من البحث عن علامات تشير إلى انحسار دوامة الأجور والأسعار يتطلع بنك اليابان إلى علامات تشير إلى ترسيخ حلقة حميدة من التحسن.
وعلى الرغم من الاضطرابات الشديدة، التي شهدتها الأسواق بعد رفع بنك اليابان الفائدة بمقدار 0.15 نقطة في يوليو جدد محافظ البنك المركزي، كازو أودا، التأكيد على ثقة البنك المركزي بقدرته على مواصلة تطبيع السياسة النقدية، وإن كان قد ألمح إلى أن الوتيرة ستكون تدريجية. وقال أودا: «إن بنك اليابان كان لديه «الوقت الكافي» لمراقبة التطورات الاقتصادية في اليابان وخارجها».
الصعود المفاجئ لشغيرو إيشيبا كزعيم للحزب الليبرالي الديمقراطي ورئيس لوزراء اليابان على حساب سناي تاكايشي يخفف من الضغوط السياسية المحتملة على بنك اليابان لتغيير مساره. وكانت تاكايشي قد دعت إلى تيسير السياسة النقدية، بينما يدعم إيشيبا بنك اليابان في تطبيع سعر الفائدة.
وبنك اليابان محق في اتخاذ نهج حذر، فهو يريد ضمان بقاء التضخم عند المستوى المستهدف، واستمرار تيسير السياسة النقدية حتى بعد الزيادة الأخيرة.