روبرت أرمسترونج – أيدن ريتر
فارق القيمة لصالح الأصول الأمريكية يواصل الارتفاع بثبات منذ 15 عاماً . تتسع يوماً بعد يوم دائرة النقاش حول مفهوم «الاستثنائية الأمريكية»، وهو الاعتقاد بأن الأصول الأمريكية مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية - قياساً بأساسياتها الحالية - مقارنةً بغيرها.
وتشمل الأسباب التي تدفع المستثمرين إلى تفضيل الأرباح الأمريكية على نظيراتها حول العالم عوامل مثل قوة السوق المحلي، ووفرة الموارد الطبيعية، والأطر القانونية والتنظيمية المتميزة، والأسواق المالية القوية والمفتوحة، والتركيبة السكانية المستقرة.
واللافت للنظر أن هذه العوامل كانت قائمة منذ مدة طويلة، ومع ذلك فإن فارق القيمة لصالح الأصول الأمريكية يواصل الارتفاع بثبات منذ 15 عاماً، ويتجلى ذلك بوضوح في الفجوة المتزايدة بين تقييم الأسهم الأمريكية وتقييم نظيراتها في الأسواق الأخرى.
جرى استحضار هذه النقاشات حول «الاستثنائية الأمريكية» بمناسبة التقرير الذي أعده جيم ريد وفريقه في «دويتشه بنك» حول العوائد طويلة الأجل للأصول، إذ يشير إلى أن العائد الحقيقي للأسهم الأمريكية على مدار 25 عاماً أي منذ مطلع الألفية الجديدة كان بحدود 4.9% سنوياً.
وهو معدل جيد لكنه أقل من أداء دول مثل أستراليا والهند وجنوب أفريقيا. ويعزى السبب في ذلك إلى القيم المرتفعة للغاية التي وصلت إليها الأسهم الأمريكية بين عامي 1999 و2000، وهي مستويات قريبة مما نشهده الآن، ما يجعل التوقعات للـ 25 سنة المقبلة أقل تفاؤلاً.
بالإضافة إلى ذلك، يتناول التقرير جانباً ديموغرافياً أعمق، حيث يظهر ارتباطاً واضحاً بين نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ونمو السكان في سن العمل.
وخلال الـ 25 عاماً المقبلة، من المتوقع أن يتباطأ نمو السكان في سن العمل في الولايات المتحدة بشكل كبير، ليبتعد كثيراً عن معدل 0.8% سنوياً الذي تم تسجيله خلال الـ 25 عاماً الماضية.
وبناءً على ذلك، من غير المرجح أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة بالمعدل السابق البالغ 2.2%. فهل يعني ذلك نهاية «الاستثنائية الأمريكية»؟ الإجابة تعتمد على الجهة التي نقارن بها.
ففي أوروبا، اليابان، الصين، تايوان، كوريا، وحتى عدد غير متوقع من الاقتصادات الناشئة، يتوقع أن يكون نمو السكان في سن العمل أسوأ بكثير.
ولا يرتبط الناتج المحلي الإجمالي ارتباطاً مباشراً بأداء الأصول الخطرة، إذ تلعب العديد من العوامل الأخرى دوراً حاسماً. لكن التقييم يظل عاملاً رئيسياً. من ناحية أخرى، ورغم أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد يعد الأهم من الناحية الشخصية والسياسية، إلا أنه يرتبط أيضاً بنمو السكان في سن العمل.
والدول التي تعاني من معدل نمو حقيقي للفرد يقل عن 1%، مثل اليابان وإيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة، غالباً ما تواجه تراجعاً واضحاً في نمو السكان العاملين، ما يؤثر سلباً على الإنتاجية.
وتشير الدراسة أيضاً إلى نقطة مهمة تتعلق بالعوائد الحقيقية الضعيفة للسندات التي ترتبط بمستويات الدين المرتفعة. وعلى سبيل المثال، شهدت إيطاليا واليابان وفرنسا عوائد حقيقية سلبية للسندات على مدار العقد الأخير وحتى خلال القرن الماضي.
ومع وصول نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة إلى ما يقارب 100%، هنا يبرز التساؤل حول عوائد السندات ضمن محفظة الأسهم والسندات.
حيث بلغ العائد الحقيقي لمحفظة 60/40 في الولايات المتحدة خلال ربع القرن الأخير 4.1%؛ لكن يجب ألا نتوقع الأداء نفسه في عام 2049.
ورغم ذلك كله، يبقى الوضع المالي الأمريكي أقل تأزماً من دول أخرى كثيرة. وقد تكون الولايات المتحدة «الأفضل بين مجموعة هي الأسوأ»، لكن هذا يثير التساؤل: ما مدى سوء وضعها؟
إن الإنتاجية العالية هي العنصر الوحيد القادر على مواجهة تأثيرات التقييمات المرتفعة، تباطؤ النمو الديموغرافي، وعبء الدين. ومن هنا، يمكن فهم الاهتمام المتزايد بثورة الذكاء الاصطناعي.
ولتحقيق عوائد مشابهة للـ 25 عاماً الماضية، نحتاج إلى الذكاء الاصطناعي أو ابتكار آخر يدفع عجلة الإنتاجية إلى الأمام.
وفي خطوة جديدة نحو محاولة إصلاح الهيكل المالي للحكومة الأمريكية، تم تعيين إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي كرئيسين مشاركين لمبادرة «قسم كفاءة الحكومة» .
وهي تعرف اختصاراً بـ«دوج»، وتستمر عامين وتهدف إلى تقليص حجم الحكومة بشكل جذري. والمبادرة، التي استلهمت اسمها من العملة الرقمية «دوج» التي يفضلها ماسك، تتميز بكونها تعمل خارج إطار الحكومة التقليدي.
وقد تعهد ماسك بخفض الميزانية الفيدرالية بمقدار تريليوني دولار، أو ما يعادل ثلث الإنفاق الفيدرالي. مع ذلك، لكن هذا الهدف يبدو لنا بعيداً كل البعد عن إمكانية التحقيق.
وعلى صعيد الوضع المالي الأمريكي، فإن الاتجاه الحالي ينذر بالخطر، ما يمثل خطراً كبيراً على المستثمرين في سندات الخزانة.
وبحسب توقعات مكتب الميزانية بالكونغرس، سيرتفع الدين الوطني من حوالي 100% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 إلى 172% بحلول عام 2054، مع زيادة العجز السنوي من 1.7 تريليون دولار في عام 2023 إلى أكثر من 2 تريليون دولار سنوياً.
ويمثل الإنفاق الإلزامي، وهو يتعلق بالمدفوعات المخصصة للبرامج الاجتماعية المقرة قانونياً، 60% من ميزانية الحكومة، بما يعادل 3.8 تريليونات دولار في 2023.
وقد تعهدت حملة ترامب بعدم المساس ببرنامجي الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، اللذين تبلغ قيمتهما 2.1 تريليون دولار. كذلك، يعتبر الإنفاق على معاشات التقاعد الحكومية، وبرامج المحاربين القدامى، وتأمين الودائع المصرفية.
والذي يبلغ 500 مليار دولار، محصناً إلى حد كبير من أي تخفيضات. أما المساعدات المخصصة للفقراء، مثل برامج «ميديكيد» للتأمين، والدعم الغذائي، فتستحوذ على التريليون دولار المتبقي.
ورغم أن تقليص هذا الإنفاق قد يكون مقبولاً سياسياً لدى مؤيدي ترامب، إلا أن تمرير هذه الخطوة يتطلب دعم الكونغرس، وهو أمر قد يواجه عوائق كبيرة بسبب الانقسام الحاد داخل مجلس النواب، ويمكن أن يعطل بعض الجمهوريين الخطة بالكامل.
ويتم تخصيص 10% من الميزانية لسداد التزامات ديون الحكومة، وأي محاولة لتقليص هذا الجزء ستؤدي إلى تعثر في السداد، وهو أمر غير قابل للتنفيذ. من جهة أخرى، يستحوذ الإنفاق الدفاعي على 20% من الميزانية.
ورغم وعود ترامب الانتخابية بتقليل التدخلات الخارجية، لم تشهد ولايته الأولى تقليصاً كبيراً في هذا المجال، ولا يتوقع أن يشهد هذا البند تغييرات في ولايته الثانية.
أما الجزء المتبقي، والذي بلغ حوالي 917 مليار دولار في عام 2023، فتم توزيعه بين وكالات مثل الإسكان والتنمية الحضرية، ووزارة الخارجية، ووزارة النقل. يعرف هذا الجزء بـ «الدولة الإدارية»، وهو المجال الذي ستركز عليه مبادرة «دوج» بشكل أساسي.
وقد تتمكن من الحصول على دعم الكونغرس في هذا الإطار. والسؤال هنا: من سيتحمل المسؤولية أمام الناخبين عندما تبدأ الطرق السريعة ووسائل النقل الجماعي في الانهيار؟
ولنتخيل هذا السيناريو: إذا تم الاستغناء عن جميع الموظفين المدنيين في الحكومة الفيدرالية، بالإضافة إلى المتعاقدين غير العسكريين، دون أي تعويضات، واستبدلوا بذكاء اصطناعي مجاني تماماً.
وتم إلغاء كل الدعم الحكومي المباشر للرعاية الصحية وللفقراء، فإن مبادرة «دوج» ستظل تواجه عجزاً يبلغ حوالي 300 مليار دولار عن الوصول إلى الهدف الذي حدده ماسك بخفض الميزانية بمقدار تريليوني دولار.
قد يفاجئ فريق مبادرة «دوج» الجميع بإيجاد وسائل مبتكرة لتحقيق وفورات مالية أكبر، ربما من خلال استراتيجيات قانونية تتيح تجاوز العقبات التشريعية في الكونغرس.
لكن، تقليص ما يعرف بـ «الدولة العميقة» لن يكون كافياً لإحداث تغيير ملموس في مسار العجز. ولتحقيق ذلك، سيتطلب الأمر تخفيضات تشمل برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، فضلاً عن خفض الإنفاق العسكري.