رسومات مميزة تلك التي تغوص في أعماق التاريخ العربي والإسلامي، لوحات أهداها الرسامون المستشرقون للعالم، ضمت بين اسطرها طبائع البشر، حركاتهم وإيماءاتهم أماكنهم ولباسهم، وحتى الضوء الذي يعكس حرقة الشمس ولهاث الحر ووحشة الظلام، كلها من دون استثناء تبدو كالإعجاز في حرفيتها، وكأنها تنطق لتروي حياة أجدادنا من شدة إتقانها، لوحات كأنها صور فوتوغرافية عالية الجودة، دونت فيها ماضياً عتيقاً، وحملت معها تساؤلات عديدة عمن هم أصحاب هذا الإبداع الفني..

ولماذا قاموا برسم هذه اللوحات.. وإلى ماذا يرمي اختيارهم زاوية السوق أو المرأة أو الوجه أو الدابة هذه من دون غيرها؟... مجموعة من الأسئلة دفعتنا لخوض رحلة التعرف على رسوم المستشرقين، لنقف وقفة تأمل مع الفنان العراقي محمد خميس فريح ليستهل حديثه بقوله إن الاستشراق بالمعنى الأكاديمي هو مفهوم تاريخي يكتسب أهميته من نتاج الماضي الواقعي كونه اهتم بالإسلام الكلاسيكي وما بعده، ولأن الإسلام دين وحضارة، دولة ومجتمع، ثقافة وفكر تاريخي، بات الاستشراق ظاهرة ملموسة في القرن التاسع عشر، عندما زاد الاهتمام بالشرق وحضارته في علم التاريخ والرحلات العلمية، وبعثات التنقيب عن الآثار، وترجمة القرآن الكريم، والأدب، والموسيقى، والعمارة، والرسم، والتصوير. وظهرت العديد من الرسومات والكتب العلمية حول طبيعة الشرق وتاريخه وشعوبه وحضاراته في شتى مراحلها.

الواقعية والمستشرقون... ويضيف الفنان محمد فريح قائلاً: «هناك مجموعة من العناصر المتشابهة بين الرسم الواقعي ورسوم المستشرقين، فكلاهما نقل تفاصيل حياة الشعوب وطريقة معيشتهم وعباداتهم وأحزانهم وأتراحهم. وعلى الرغم من أن العناصر المتباينة ما بين المدرستين والمتمثلة بطبيعة الحياة الماضية والواقع الحضري الذي نعيش فيه اليوم، إلا أنهم يتوافقون على الفكرة الأساسية، وهي محاكاة الواقع وتصويره كما هو دونما تغيير.

لكن هاتين المدرستين الواقعية والاستشراقية قريبتان جدا من الإسلاميات التي اعتمدت على إبراز الفن المعماري للحضارة العربية والإسلامية، ودمجت معها بعضا من سور القرآن الكريم والحديث والحروف والزخرفة والخطوط العربية». ويتابع فريح حديثه قائلاً: «تعتمد استخدام الألوان في رسوم المستشرقين بشكل كبير على الألوان الغامقة أو ما يطلق عليها بالألوان المعتقة أو الحارة كالبني ومشتقاته والأسود، لكن هذا لا يعني أن الرسام لا يستطيع استخدام الألوان الفاتحة لإعطاء روح للوحة من خلال إيجاد طريقة لتجانس الألوان الباردة مع الحارة من دون أن يشعر الناظر بتنافر الألوان. وتكمن أهمية الألوان الغامقة في هذا النوع من اللوحات إلى تاريخها القديم، فجميع لوحات المستشرقين التي يعاد رسمها من جديد تعتمد على العناصر الرئيسية التي تم توظيفها في اللوحة الرئيسية وتوليف فكرة جديدة من رحم اللوحة القديمة التي يعود تاريخ بعضها إلى مئات السنين.

فن تجاري

ويوضح فريح قائلاً: «إن فن المستشرقين يعد أحد الفنون التجارية الذي يعتمد على عاملي العرض والطلب، وحاله لا يختلف كثيراً عن باقي الفنون الأخرى كونه يصادف بعض المعوقات أهمها عدم قدرة الفنان للوصول إلى بعض اللوحات القديمة، لأسباب متعددة منها ضياع اللوحة الأصلية أو عدم نشر صورة اللوحة لأن مقتنيها لا يرغب بذلك، بالإضافة إلى مجموعة من المعوقات الأخرى التي تعتمد على الفنان نفسه ومنها إحساس الفنان بالملل من متابعة رسم اللوحة، لاسيما وأن رسما مثل هذا النوع من اللوحات كان يستغرق في الماضي أشهرا وسنوات في بعض الأحيان لإكمال هذه اللوحة أو تلك.

فالفنان المستشرق حاول من خلال هذا الفن تجسيد الواقع العربي والإسلامي وصوره كما رآه، ومن هنا تكمن أهمية هذا الفن على الرغم من أن الحاضر جعل منه فناً تجارياً بحتاً يكتسب أهميته من قدم اللوحة وارتفاع سعرها، لكن حتى اتخاذ هذا الفن منحى آخر مختلفا عن الهدف الرئيسي الذي من أجله رسم ليتحول إلى سلعة يدخل فيها عالم المال والاقتصاد، إلا انه لا يزال يحتفظ بخصوصية مختلفة تكتسب تميزها من قدرتها على سرد التاريخ الصادق الذي لا يحتمل الكذب والمراوغة، فمن خلال هذا الفن نستطيع أن نعرف جيداً كيف عاش أجدادنا، وما أهم العناصر والمفردات التي احتوتها تلك الحقبة من الزمن».

المرأة والمستشرقون

ورداً على سؤال عن السبب الرئيسي وراء افتتان المستشرقين بالمرأة وتضمينها في أغلب لوحاتهم، خاصة وان الفنان فريح اعتمدها في كثير من لوحاته، أجاب أن المرأة تعطي اللوحة نكهة وحياة، كونها سراً من أسرار الكونية، أما بالنسبة للمستشرقين فتضمنت رسوماتهم مجموعة من القضايا الدقيقة التي تناولت جميع تفاصيل الحياة العربية من عمارة وطريقة عيش ورسم للأزقة والأحياء والمساجد، وكان للمرآة حيز كبير في رسوماتهم.

حيث صوروها في حالاتها النفسية المختلفة داخل المجتمع، واستطاعوا من خلال هذه الرسوم أن ينقلوا بعض العادات والتقاليد التي كانت تقوم فيها النساء بما فيها العنف الجسدي الذي عانت منه المرأة في تلك الحقبة، وقد يعود شغف الرسامين المستشرقين بالمرأة لأسباب عديدة منها شغفهم بالجواري، وحب استكشاف السحر الشرقي المخبأ في تفاصيل الحياة اليومية للمرأة، لذلك صوروها عارية .. وأيضاً مرتدية أنواعاً مختلفة من الملابس التي تمثل تلك الحقبة من الزمن.

دبي ـ فضيلة نجيب