سعدون جابر حمل ألقابا عديدة أبرزها «سفير الأغنية العراقية» و«سفير السلام» لدى الأمم المتحدة، كما منحته الجالية العربية في أستراليا مفتاح مدينة سيدني تكريما لفنه العظيم. لكن رغم جميع الألقاب السابقة واللاحقة، يبقى أبا حقيقيا للفن العراقي، وواحدا من أبرز المبدعين الذي أرّخوا لهذا التراث الفني العريق خلال عقود طويلة، بل إنه أعدّ قبل أعوام دراسة دكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية تناول فيها 10 من أطوار الغناء الريفي العراقي التي يتجاوز عددها الـ 2000.
ويقول جابر «كوني ابن العمارة (حي في منطقة الأهوار العراقية عمره 5000 عام) حاولت توثيق 10 أساليب فقط من مجموع 2070 أسلوبا في الغناء الريفي العراقي فقط، وكل أسلوب يتفرع إلى عشرات الأساليب الأخرى، هذه الثروة تكاد تُنسى لأنه لا يتم غناؤها، فالمطرب الشاب الذي يرغب بشهرة سريعة لا يبحث في التاريخ الغنائي لبلده، ويعتبر نفسه فوق مستوى هذا الفن الشعبي العظيم». وبدأ جابر حياته الفنية كمؤد في فرقة «الكورال» مع الفنان العراقي «القبنجي»، ورافقه في تلك الفترة عدد من الفنانين العراقيين المعروفين كـ «فاضل عواد» و«هادي حافظ» و«عارف مشعل» وغيرهم. غير أن طموح هذا المغني الشاب لم يتوقف عند ذلك، فسرعان ما أصبحت أغنية «يا طيور الطايرة» التي غناها عام 1971 من أشهر الأغنيات العربية التي تتسابق الإذاعات العربية على بثها، فضلا عن اختيارها إلى جانب «عيني عيني» عام 2006 عقب استفتاء أجرته شبكة البي بي سي، كاثنين من أجمل مئة أغنية في القرن العشرين.
ويقول جابر «بما أن إذاعتنا المحلية لم يصل بثها في تلك الفترة سوى إلى منطقة الرمادي، لم تُعرف أغنية يا طيور الطايرة خارج العراق حتى عام 1979، حيث نقلها الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان». ورغم أن جابر غنى عشرات الأغنيات بعد «يا طيور الطايرة» أبرزها «عيني عيني» و«يانجوى» و«لوه ولوه ولوا» التي غناها أكثر من 20 مطربا عربيا، لكنه يمتلك حنينا خاصا تجاه أغنيته الأولى (يا طيور الطايرة) التي يعتبرها «اللبنة الراسخة في مسيرتي»، ولذلك فهو يختم بها جميع حفلاته، مبررا بقوله «بعد يا طيور الطايرة ليس هناك غناء». وخلال أربعة عقود لحّن لسعدون جابر كبار الملحنين العرب، منهم بليغ حمدي ومحسن فرحات وكوكب حمزة وغيرهم، حيث غنى جميع ألوان الغناء العراقي (الأبوذية والمقام وغناء البادية وغيرها.)
يقول جابر بعد أربعة عقود أشعر أنني قادر على الغناء بشكل أفضل، وثمة نضوج صوتي ووعي وثقافة أكبر، الآن عندما أغني أحس نفسي أكثر صدقا وعفوية وتأثيرا بالمتلقي، ويترجم هذا التأثير بالدموع التي أراها في عيون الناس، كل ذلك يجعلني أتمنى تقديم أغنانٍ جديدة، لكني أجد صعوبة الآن في إيجاد ألحان مناسبة. ويتميز صوت جابر ببحة صوتية نادرة، جعلت البعض يلقبه بصاحب أحنّ صوت في العراق، ولعل الآهات التي يتوج بها مواويله تختزل معاناة شعب كامل عانى ومايزال من ويلات الكوارث والحروب. ومن أشهر المواويل التي غناها جابر «موال الذهب» الذي كتبه جندي عراقي يُدعى كاظم إسماعيل القاطع (وكان صديقا لجابر)، وغناه جابر عام 1984.
يقول جابر في الموال «اللي مضيع ذهب بسوق الذهب يلقاه، واللي مفارق محب يمكن سنة وينساه، بس اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه؟».
ويرى جابر أن ثمة نوعين فقط من الموسيقى في العالم العربي هما الموسيقى المصرية والعراقية، «المصرية وليدة الفراعنة العظام والعراقية بنت السومريين والبابليين والأكاديين».
ويضيف «كل الموسيقى العربية التي يُسوق لها الإعلام الآن، تدور في فلك الموسيقى المصرية، وجميعها تشبهها إلا الموسيقى العراقية فهي عالم مختلف تماما، ويستطيع المرء أن يميز الأغنية العراقية عندما يسمعها».
ويدلل على كلامه بشهادتين لموسيقيين عربيين كبيرين هما محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، فالأول زار العراق قبل نصف قرن وعايش الأغنية العراقية بشكل مباشر، أما الثاني فـ «عندما قدم إلى العراق، قال لي انه يريد زيارة كربلاء ليسمع الأذكار الحسينية، لأن الراءات الحسينية ثروة موسيقية كبيرة».
ويقول جابر «الموسيقار محمد عبد الوهاب قال ذات يوم إنه في العالم العربي ثمة موسيقى مصرية تدور في فلكها كل الموسيقات العربية، وموسيقى عراقية هي عالم مستقل بذاته، وحتى وفاته كان عبد الوهاب يفضل الاستماع إلى الألوان الغنائية العراقية بصوت مغنين من الغجر العراقيين». وحول واقع الأغنية العراقية الحالية يقول جابر إنها مصابة بنفس الأمراض التي أصابت الغناء العربي «هناك أغان الخضروات وغيرها»، ويرى أن موضوع الارتقاء بالغناء العراقي مرتبط بوعي المغني اليوم، فكلما «تدنى الوعي عنده كلما تردت الأغنية».
ويضيف «الفن والإبداع عموما مرتبطان بالنظام العربي، كلما كان النظام العربي يمثل شعبه بشكل جيد كلما ارتقت الفنون، وخير دليل على ذلك هو أن الفنون العربية كانت في عهد عبد الناصر من أرقى الفنون، وأعطتنا في تلك الفترة أرقى فن عربي في المسرح والسينما والموسيقى والأدب والشعر، الآن انظر ماذا أعطانا المبدع العربي!».
ويؤكد جابر أن العراق يحتوي تراثا فنيا عريقا جدا لم يتم اكتشافه بعد، مشيرا إلى أن الذي وصل للمستمع العربي من المقام العراقي من خلال القبنجي وناظم الغزالي يعتبر يسيرا جدا.
ويضيف لدينا الأغنية الريفية والمقام العراقي أو أغنية المدينة وغناء البادية، وكل لون من هذه الألوان يتفرع إلى مئات الفروع التي لم يصل منها للمستمع العربي إلا القليل جدا.
وعن تكريمه من قبل الأمم المتحدة والجالية العربية في أستراليا يقول جابر دُعيت من قبل النادي الثقافي للآشوريين في أستراليا، حيث أقمت حفلتين، وخلال الحفلة الأولى جاء نائب حاكم مدينة سيدني ليمنحني مفتاح المدينة، وفجأة شرع الأخير بالبكاء وقال لي أعدتني 40 عاما للوراء، مشيرا إلى أن أصوله عراقية، وكانت الأمم المتحدة منحتي عام 2008 لقب سفير للسلام للأمم المتحدة، (يبتسم) الآن أحمل لقب سفارتين: الأغنية العراقية والسلام.
وإلى جانب مشروعه في حفظ التراث الفني العراقي، حاول سعدون جابر تخليد المبدعين العراقيين عبر عدة أعمال تلفزيونية، ساهم في إنتاجها وأداء بعض الشخصيات الرئيسية فيها،
فبعد مسلسل «السفير ناظم الغزالي» الذي عُرض في 16 فضائية عربية، أنتج جابر مسلسلا عن المغني الشعبي مسعود العمارتلي، فضلا عن مسلسل آخر عن الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب عام 2002، غير أنه لم ينجح في تسويقها، والسبب برأيه هو أن العملين عراقيان.
يقول جابر قمت بإنتاج مسلسل عن السياب، كتبه فاروق محمد وأخرجه فارس طمعة، وشارك فيه أكثر من سبعين ممثلا عراقيا، وقمت أنا بغناء بعض قصائد السياب، كما أنتجت مسلسلا عن شخصية المغني مسعود العمارتلي وهو بالأصل سيدة تُدعى «مسعودة»، لبست ملابس الرجال وكانت تغني لشيخ قبيلة «البومحمد» المعروفة في العراق، ولكن كلا العملين لم أستطع تسويقه، والجواب كان دوما أنهما عراقيين.
ويقول جابر إنه يفكر الآن بإنتاج مسلسل عن سيد درويش والقبنجي والشاعر العراقي الكبير مظفر النواب الذي اشترط علي أن يكتب هو العمل، ولكن هذا يحتاج لشركة عملاقة للإنتاج لأن مظفر شخص كبير. كما يحضر لألبوم غنائي جديد يضم قصائدللمتنبي والشاعرة العراقية لميعة عباس «عمارة» ومظفر النواب وغيرهم.
غير أن أهم مشروع يسعى لتحقيقه في الفترة القريبة المقبلة هو تقديم أوبريت يتحدث عن العلاقة الوثيقة بين الشعبين العراقي والكويتي «وأتمنى أن يشاركني فيه الفنان الكويتي الكبير عبد الله الروشيد».
ورغم تاريخه الفني العريق الذي يمتد لأربعة عقود، يفضل جابر الابتعاد عن الإعلام، «أنا أستحي أن أسوق نفسي، أو لنقل أنا لم أعتد على ذلك».
ويقول جابر أتمنى لو كنت من أصحاب «الواحدة» إذا لاكتفيت بأغنية «يا طيور الطايرة»، ولكن لدي أغنيات أخرى حققت شهرة كبيرة مثل «يا أمي» و«عيني عيني» وغيرها. ذات يوم قال محمد الماغوط في كتابه «سياف الزهور»: أحببت اثنين في حياتي «فيروز» و«سعدون جابر»، وسألته أي أكثر أغنياتي تحب؟ فأجاب «عيني عيني».
دمشق ـ حسن سلمان