لا يهدأ هاتفه عن الرنين، يتناوله بسرعة، يرد على تساؤل، أو يقدم نصيحة، ثم يضرب موعداً مع مخرج شاب ويعده : «سنناقش أفكارك سويةً»، هاتف آخر ينهيه بالتأكيد على: «تقديم المساعدة في المشروع».

هكذا لا يزال الرجل السبعيني يحتفظ بحيوية الشباب أو ربما بالحلم، هذا الحلم قاد المخرج السينمائي السوري نبيل المالح ‬1936، يوماً ما إلى تغيير التخصص، الذي سافر لدراسته من الفيزياء النووية إلى الإخراج السينمائي.

كانت اللغة المكان الأول الذي عبَّر فيه عن هواجسه، فأرسل أولى قصائده إلى جريدة الصرخة في بيروت لبيان الرأي وهو في الصف الثامن، لكنه تفاجأ عندما رآها تنشر كقصيدة العدد، تتالت بعدها محاولات الكتابة، فحجز عموده السياسي اليومي في مجلة ألف باء الدمشقية في سن الخامسة عشرة، ثم أتبع العمود بكاريكاتور سياسي تولى التعليق عليه الصحافي السوري عادل أبو شنب، تحت عنوان الكاريكاتور يتكلم، ثم نشرت له مجلة (صباح الخير) المصرية وعلى أربع صفحات قصته (حارة واحدة) وكانت المجلة تعتبر قبلةً للأدباء والمثقفين في خمسينات القرن الماضي.

ذاتية الأدب والفن لم تقصه عن أحلامه العلمية، فحزم حقائبه متوجهاً إلى براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا لدراسة الفيزياء النووية، يومها كانت براغ (الاشتراكية) تحسب سوريا على (المعسكر الغربي الرأسمالي)، وكان وصوله كأول طالب قادم من دول (الغرب) للدراسة في براغ يحمل ثقلاً كبيراً، لذلك حضر لاستقباله في محطة القطار مندوبان عن وزارة الخارجية ووزارة التعليم، لكن الطالب الحالم تعرّف في الطريق على فتاة نمساوية رافقها إلى منزلها وقضى عندها أسبوعين والجميع في انتظار الطالب المفقود.

لم تكن دراسته في براغ على حساب الدولة التي لن يوفد على حسابها في المستقبل أيضاً، أو أي جهة سياسية أخرى، بل على حسابه الشخصي، لذلك اضطر للعمل أثناء الدراسة، فكان يعمل في تحرير الأخبار أو الصحافة ويتقاضى أجر ما يكتب من قصائد أو قصص، إضافة إلى بيعه لوحاته الفنية في عواصم أوروبية عديدة جال بينها، وأثناء بحثه الدائم عن عمل قاده أحد الأصدقاء إلى مهنة الكومبارس في أحد الأفلام، وفي موقع التصوير اكتشف من سيعتبره النقاد مستقبلاً (رائد السينما السورية)، عالم الصورة، وعرف أن هذا عالمه الحقيقي، فانطلق في اليوم التالي إلى وزارة التعليم ليغير دراسته من الفيزياء النووية إلى السينما.

قبل دخول الجامعة خضع لامتحان القبول فكان واحداً من بين ‬12 طالباً مقبولاً في الدراسة، سيتخرج منهم بعد ‬5 سنوات ‬6 فقط هو أحدهم، علماً أنهم كانوا في امتحان القبول ألف طالب متقدم.

عام ‬1958 قامت الوحدة بين سوريا ومصر، هكذا غدت الدراسة في تشكوسلوفاكيا، تستحق تهمة الانتماء إلى الشيوعية التي تواجهت مع دولة الوحدة الناصرية، فأرسلت الدولة في طلب ‬13 طالباً يدرسون في الخارج وكان اسمه ضمن القائمة، مع التهديد بسحب الجنسية منهم، رغم أنه لم ينتمِ إلى أي تنظيم سياسي.

لكنه رفض العودة كما رفض التهديد بسحب الجنسية، هذه الحادثة جعلت الأمن يحتفظ بملفه في ألواحه التي لا تفنى، بعد الانفصال عاد إلى دمشق: «هي المكان الوحيد التي يغريني البشر فيها بالعودة إليها دائماً». وكان يحمل جائزة مهرجان (كارلوفي فاري) عن فيلم تخرجه من الجامعة، لكن حالة عدم الاستقرار السائدة في سوريا وموت والده خلال تلك الفترة، إضافةً إلى تجربة اعتقال قصيرة جعلته يعود أدراجه باحثاً عن حلمه من جديد، ليقضي سنواتٍ متنقلاً بين عواصم أوروبية عديدة.

بعد هزيمة ‬1967 عاد إلى دمشق وطعم النكسة لايزال في فمه، خلال هذه الأيام التقى مدير مؤسسة السينما موفق الخاني الذي أغراه بفكرة إخراج فيلم عن المأساة الفلسطينية، فكتب وأخرج فيلمه (إكليل الشوك) بلغة سينمائية مختلفة ليغدو موديلاً للسينما البديلة كما اعتبره نقاد تلك المرحلة.

أما العلامة الفارقة ستبقى فيلمه (الفهد) الذي أخذه عن رواية مواطنه الكاتب حيدر حيدر، وبدأ التحضير لتصويره في خريف ‬1969، لكن وزارة الداخلية عارضت إنجازه بحجة أنه يمجد بطولات قاطع طريق، ووافقتها وزارة الثقافة أيضاً، فتأجل المشروع حتى عام ‬1972 ذاك الفيلم كان: «مجازفة من حيث البناء الدرامي.

ومغامرة من ناحية الشكل الفني، وهو أول فيلم منطلق من هوية سورية، وصار مرجعية درجت عليها أفلام كثيرة بعده»، بقي الفهد يعرض ثلاثين عاماً في كثير من دور العرض، واعتبر واحداً من كلاسيكيات السينما العالمية بعد اختياره عام ‬2005 في مهرجان بوزان الدولي العاشر كواحد من الأفلام العشرة الخالدة في تاريخ السينما الآسيوية.

ليست السينما الروائية ما شغل صاحب (رجال تحت الشمس)، إنما أخرج عدداً من الأفلام الوثائقية والتجريبية أيضاً، ربما أشهرها (نابالم) ‬1970، والذي استطاع فيه خلال (دقيقة ونصف الدقيقة) مدة العرض، أن يوجه نقداً للسياسية الأميركية، لم تستطع كل بلاغات الأنظمة العربية على تقديمه في تاريخها، وحاز الفيلم على الجائزة الكبرى لمهرجان طولون، كما اعتمد كمادة تدريسية في كثير من الجامعات.

لينجز بعدها فيلمه (السيد التقدمي) ‬1975، والذي منع من العرض لأنه يحاكي فساد إحدى شخصيات السلطة في تلك المرحلة، ثم ليقدم عام ‬1980 فيلمه الروائي (بقايا صور) المأخوذ عن رواية حنا مينا، وهذا الأخير نال حصته من الرقابة، فاقتطع منه ربع ساعة كاملة، وتجربة صاحب (الهدف) مع الرقابة طويلة ومريرة، ولم تطل أفلامه الروائية إنما أيضاً الوثائقية والتجريبية، كفيلمه (الدائرة) على سبيل المثال، وربما يكون آخر ما حذف له ‬170 مشهداً من السيناريو الذي كتبه لمسلسل أسمهان، ويعزو صاحب (شيخ الشباب) هذا إلى: «من يقوم على الثقافة وأغلبهم أشخاص متوسطو المعرفة والشأن وحتى القيمة».

كانت الثمانينات مرحلة مواجهة، عرف المجتمع السوري فيها كثيراً من العنف والصراع، لذا عادت هواجس السفر إلى رأس المالح الذي تأكد من أنه أضاف نكهته الخاصة إلى السينما السورية خلال الأعوام السابقة، فحزم أمتعته متجهاً إلى الولايات المتحدة الأميركية هذه المرة، والتي استقبلته بحفاوة.

وفتحت له جامعاتها كأستاذٍ زائر، على الرغم من إعلانه اختلافه مع سياساتها منذ فيلمه (نابالم)، ليقضي سنوات متنقلاً بين الجامعات الأميركية، ثم يعود بعدها في رحلةٍ استقر خلالها فترة قصيرة في جنيف، ليحط الرحال نهايةً جنوب اليونان لا يفصل بينه وبين سوريا سوى مسافة بحرية بسيطة.

وأثناء إحدى زياراته إلى دمشق عام ‬1990، قاده النقاش مع أحد الأصدقاء ليؤكد أنه قادر على تلخيص أزمة الوضع العربي في فيلم يتحدث عن موعد غرامي بين عاشقين، هكذا وجد نفسه مسؤولاً عن كلمته، فاعتزل في اليونان قرابة السنة لينجز سيناريو فيلمه الجديد (الكومبارس)‬1992، الذي حصد ذهبية أفضل مخرج في مهرجان القاهرة السينمائي، كما أدرجته جامعة (ديوك الأميركية) ضمن برنامجها الرسمي ليدرس كواحد من كلاسيكيات السينما: «كان الفيلم يحتاج إلى شجاعة في إنجازه، فكيف لك أن تستحوذ على مشاهد ساعة ونصف الساعة والكاميرا تجول في مكان واحد؟!».

الثمانينات القاسية، وحربا الخليج، إضافة إلى الوضع الاقتصادي تركت أثرها في سوريا، فاجتمع عدد من المثقفين، في منزل المالح مطلع الألفية الجديدة ليؤسس معهم ما عرف بـ(لجان إحياء المجتمع المدني)، هذه المجموعة واجهت الرفض من السلطات.

ويرى صاحب (الكريستال المقدس) أن خلافه الذي غدا فولكلوراً سينمائياً سورياً، مع المؤسسة العامة للسينما بشخص مديرها محمد الأحمد، هو أحد أشكال العقوبة التي يتلقاها نتيجة انخراطه في الشأن العام، واليوم: «لم أعد راغباً بحل الخلاف، فلن أتعامل مع شرط ثقافي متواضع، وأطالب بكشف حسابات المؤسسة لتعرض ما أنتجته مع هذه الإدارة، وأسألهم لماذا تخافون من عرض أفلامكم التي تشبه السهرات التلفزيونية؟».

المشروع السينمائي الجماعي لا يغيب عن ذهن صاحب المئة وخمسين فيلماً بين تسجيلي وروائي ووثائقي، وهو يعمل اليوم على تأسيس جمعية فيلم للسينمائيين السوريين لتكون قوة تجمع هؤلاء، وتطور المنتج الثقافي بعامة والسينمائي بخاصة، من خلال صندوق وطني للسينما أو للثقافة على غرار المتبع في دول الاتحاد الأوروبي، هكذا يريد صاحب (وليمة صيد ‬2005) وهو أول فيلم بريطاني سوري مشترك وناطق بالانجليزية، أن يشترك من خلال مشروعه مع سينمائيين من مختلف الأجيال وبالتحديد الشباب لأن لديهم: «أفكار ولكن تنقصهم الأدوات والإمكانيات، وأنا أحاول تقديمها أغلب الأحيان من جهدي الخاص».

لا تتوقف مشاريع السينمائي الدمشقي، فهو مقبلٌ على إنتاج فيلمه الجديد (بيانو)، ويبحث عن طريقةٍ لإنتاج فيلمه (فيديو كليب) والذي يصفه بـ: «الإشكالي وله علاقة بمفاهيم كونية». فيلمان ينتظران إذاً، والثالث ينتظر إنهاء السيناريو الكامل ويحمل عنوان (أيام الوشم)، إضافة إلى معرض سيضم مجموعةً من لوحاته.

يرن الهاتف مرةً أخرى، يرد بحيوية وبلغةٍ إنجليزيةٍ طليقة، تدفع للتساؤل هل ستسافر من جديد؟

يجيب مسترجعاً ذاكرة نصف قرن من العمل: «أحياناً أتمنى لو سافرت نهائياً، لكني لا أريد أن أكون رقماً بين أرقامٍ في الخارج، أريد أن أكون هنا في هذا المكان».