داخل غرفة صغيرة ومغلقة يبدأ المونتير عملياته الجراحية بمشرطه الخاص بعد انتهاء جميع العناصر الفنية للفيلم من أداء الأعمال المنوطة لكل واحد منهم، فيقوم بتقطيع ولصق وتجميع الأجزاء والمشاهد؛ لتكوين عمل متكامل من واقع السيناريو المكتوب، فتظهر براعته التي تمكنه من تكوين فيلم مترابط قوي وناجح يستطيع إبراز مجهودات الفنانين وعمال الإضاءة ومهندسي الصوت والمصورين والمخرج، وإضافة أبعاد أخرى تمنح العمل الفني جودة وأصالة تفوقان لمسات المخرج، ما يجعل من المونتير مخرجا ثانياٍ للعمل، وإن كان لا يحظى بالشهرة نفسها التي تمنح للمخرج حال نجاح العمل الفني.. «الحواس الخمس»، رصدت دور المونتير وتأثير أجهزة المونتاج الرقمية في عمله، والتفاصيل في السطور التالية..

 

ينظر القائمون على العمل السينمائي إلى المونتير على أنه الرجل الثاني بعد المخرج مباشرة ولا يختلف عن المخرج سوى في قيادة الممثلين والفنيين والكومبارس، كما يتحكم في إيقاع الفيلم من خلال تأخير وتقديم وحذف مشاهد معينة من الممكن أن تخل به، ومن شدة تألق بعضهـــم في هذه المهنة تحول من مونتير إلى مخرج، حيث برعوا في الإخراج كما برعوا في المونتاج، منهم الراحل شادي عبدالسلام وخالد مرعي.

 

تقطيع ووصل المشاهد

يبدأ المونتير عمله الحقيقي فور انتهاء عملية التصوير تماما باستخدام الأرشيف الفيلمي الذي يجب أن يكون المخرج والمصور ملمين به تماما؛ من حيث أحجام اللقطات والتكوينات الداخلية لكل لقطة، وهنا لا يقتصر عمل المونتير على تقطيع ووصل المشاهد وحذف بعضها أو الاستعانة بجزء منها، لكنه يعتمد على إبداعه في عملية القطع التي تظهر روعة أداء المشاركين في العمل الفني..

ومع التقنيات الحديثة أصبح عِلم المونتير أسهل بكثير، حيث كان يتم في الماضي من خلال تقطيع لقطات ومشاهد الفيلم يدويا من خلال شريط 35 ملم الذي يتم تقطيعه إلى 25 لقطة في الثانية الواحدة، وهذا الأمر كان يحتاج إلى تكلفة إضافية يمكن أن تصل إلى تكلفة الفيلم الإنتاجية، لكن الثورة التكنولوجية جعلت طبيعة عمل المونتير أسهل بكثير من خلال برامج المونتاج الخاصة بالقص والتقطيع، سواء كانت تلك المشاهد والأجزاء تم تصويرها من خلال الكاميرا السينمائية أو الديجيتال أو الرقمية؛ ما أوجد مونتاجا متميزا في العشرين عاما الماضية لا يشعر معه المشاهد بأي تقطيع في الصور والأحداث عكس الماضي. والمتابع لمسيرة السينما المصرية، يلحظ أنها بدأت مع المونتير الذي يقوم بعمل المونتاج من خلال «الموفيولا» جهاز تقطيع الفيلم، وأن الجيل القديم من المونتيرات لم يكن يشعر بالحميمة مع الكمبيوتر والماوس والكي بورد في إجراء عمليات تقطيع ووصل الأفلام، لدرجة أن بعض المونتيرات الآن مازالوا متمسكين حتى هذه اللحظة بـ«الموفيولا» وبعض الوسائل القديمة التي عفا عليها الزمن.

 

السينما الصامتة

كان المونتير في السينما الصامتة هو العنصر الأهم، حيث كان يركّب ما يشاء من المشاهد لتخدم السياق، لكن مع اكتشاف الصوت قلل من أهميته، إذ كان الاعتماد عليه في بدايات السينما المصرية في ثلاثينات القرن الماضي لإجراء عمليات التقطيع والربط لتوفير السياق الدرامي لقصة الفيلم من البداية إلى النهاية، حيث كان المونتاج يستخدم في الماضي لإصلاح بعض العيوب في التصوير والقصة أيضا، كما حدث في فيلم «المتهمة» عام 1942، حيث اضطر المخرج بمساعدة المونتاج في تسجيل تعليقات على بعض الأحداث، بينما استخدم المونتير أسلوب القطع المتوازي عام 1963 في فيلم «الباب المفتوح» لإصلاح خلل ما في السيناريو، واستطاع المونتير فتحي قاسم إعادة الروح لعدد كبير من الأفلام في منتصف القرن الماضي من خلال القطع المميز لمشاهد الحركة والمشاهد التمثيلية، حتى يتناسب القطع مع الحركة السريعة بعد أن كان معظمها لا يصلح للعرض.

ويؤكد عدد من المعنيين بالفن السابع أن المونتير ظل يعمل بطريقة ثابتة في السينما لا تتغير، يقوم باختيار وترتيب المشاهد وطولها الزمني على الشاشة بطريقة بسيطة ومحدودة يستند خلالها إلى خبرته وحسه الفني وثقافته العامة وقدرته الكامنة على إعادة إنتاج مشاهد تبدو مألوفة، لكنها بالقص واللصق وإعادة الترتيب تتحول إلى دراما ذات خطاب معتمد موجه إلى الجمهور وتحمل رسالة معينة، وظل الأمر هكذا حتى وصلت الحالة التقنية إلى أشدها في بداية التسعينات مع التقدم التكنولوجي وما تبعها من حدوث طفرة رقمية في التصوير.وسط هذه الطفرة التكنولوجية، برز دور المونتير بشكل أكبر لدرجة أنه تساوى مع المخرج وكاتب السيناريو في التوليف والتركيب، وظهرت إبداعاته بشكل يلفت النظر ليكون ركيزة أساسية لأي مشروع إنتاج سينمائي أو تلفزيوني، كما أصبح دوره مهماً في حذف الأجزاء الزائدة من المشاهد دون الرجوع إلى المخرج، كذلك تصحيح أخطاء التصوير إن أمكن مع إضافة عناصر خارجية إلى العمل الفني كالصور الثابتة مثل الفلاتر والانتقالات مع ترتيب المشاهد حسب المخطط الموضوع في لقاءاته بالمخرج والسيناريست.

لكن هناك عددًا هائلاً من عباقرة المونتاج ورواده لم يستطيعوا مسايرة التكنولوجيا الحديثة أو ترك «الموفيولا» ومعدات الصوت التقليدية وكانت النتيجة أن دارت عجلة الزمان عليهم، ومن هؤلاء شيخ المونتيرات حسن عفيفي الذي تخوف من التعامل مع أجهزة لا تعمل يدويا وتتطلب قدراً من الإلمام بعلوم الكمبيوتر، لكن احتياجات السوق تطلبت الاستغناء عن «الموفيولا» وملحقاتها.

 

موسم الهجوم على التكنولوجيا

ويعد فيلم «هستيريا» للمخرج عادل أديب من أول الأفلام التي تم تنفيذها بالتكنولوجيا الحديثة، وكان ذلك عام 1998 ولعب بطولته أحمد زكي وشريف منير وعبلة كامل، وكان واحدا من أفضل الأفلام التي عرضت للمنتجة ناهد فريد شوقي في العام نفسه، حيث قامت بعمل المونتاج على برنامج كمبيوتر خاص بالمونتيرة السينمائية منى ربيع، لكنه لم ينجح جماهيريا فوجد المونتيرات التقليديون فرصتهم للهجوم على التطور التقني ونسبوا فشل الفيلم بالكامل للمونتيرة الصاعدة والمونتاج الكمبيوتر. وتختلف نوعيات المونتير من شخص لآخر، فهناك الحرفي الذي يركز في عمله فقط ولا يحاول الاجتهاد ويقوم بتنفيذ تعليمات المخرج بحذافيرها دون حذف أو إضافة أو تدخل في الرؤية، في حين يفرض النوع الآخر رأيه ويضع تصوره ويمسك بأدواته جيداً، ويقوم بمساندة حقيقية للمخرج تضيف للعمل ويتحقق من خلاله أعلى مستوى فني لإظهار السيناريو المبدئي ليصل من خلال تلك الرؤية إلى إعلاء قيمة المخرج وارتفاع قيمة فيلمه إلى أعلى مستوى، وتمكنه تلك الرؤية الفعالة من تلافي عيوب التصوير والتعامل مع أخطاء التنفيذ.

 

المونتير المخرج

وهناك نوع ثالث من المونتيرات يطلق عليه في غرف السينما المونتير المخرج وهو الذي يفكر في المادة المصورة وكأنه يعيد إخراجها من جديد، ويكون ذا خبرة عالية وواثقاً في نفسه، خاصة أن قرار القطع النهائي يكون في يده دون أن يخاف أو يتراجع، فيقوم بحذف مشاهد ويضيف أخرى مادام ذلك في صالح العمل، ويتوافر ذلك في الجيل الجديد فقط أمثال تامر عزت، في حين لا يصلح العباقرة القدامى أمثال سعيد الشيخ وكمال أبوالعلا ونادية شكري في التعامل بمنطق العمل الفردي؛ لأنهم تعودوا أن يشاركوا المخرج والسيناريست في الرأي.

ولكن في السنوات الخمس الأخيرة اختلف دور المونتير، وتقلصت مساحة مساهمته في الفيلم، وأسند شريط الصوت لمهندس الصوت، فأصبحت المقدمة مسؤولية الإنتاج ومساعد المخرج بعد أن كانت بمثابة مدرسة يتعلم فيها المونتيرون الجدد، حيث اقتصر دور المونتير الآن على الجلوس على كرسي المخرج لمدة ساعات بعدها يترك زمام الأمور للمخرجين.

لكن المونتيرة ليلى فهمى تؤكد أن التكنولوجيا الحديثة مهما تقدمت ومهما فرض المخرجون سطوتهم فلن يستطيعوا إلغاء دور المونتير؛ إذ تكون دقته وفنية تنفيذه بحساسية شديدة هما اللذان يحددان الكادر الذي يحسم القطع وذلك في جزء من الثانية، حيث يتخذ قراره في وقت بسيط للغاية.

وتضيف فهمي أن المونتير دوره موازٍ للمخرج الذي يعتمد على إخراج لقطات من الخيال، بينما يخرج المونتير لقطات من الملموس؛ لذا يجب التنسيق بين المونتير والمخرج لإنجاح أي عمل فني.

 

وسائل مساعدة

وتؤكد د.منى الصبان، الأستاذ بالمعهد العالي للسينما أن وسائل التكنولوجيا الحديثة أصبحت مهمة في مجال المونتاج لكنها، على حد قولها، تبقى وسائل مساعدة لا تصنع مونتيرا بالمعني المفهوم، وهي إن وفرت للمونتير كثيرا من الجهد فإنها مجرد أداة لدعم عمله ولا تصنعه.

وتتابع: «المونتير هو مخرج ثانٍ للعمل، فلا يستطيع المخرج القيام بعمله كما يحدث في بعض الأعمال حالياً- للأسف- لكن الصبان تطالب القائمين على أعمال المونتاج حاليا بإتقان لغة الكمبيوتر، وتقول: هناك عدد من المونتيرين القدامى يرفض استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة ويرفض أن يكون مواكبا لتطور هذا الفن عالميا، إلا أنه في المقابل هناك شباب المونتاج خريجو معهد السينما والدارسون لهذا الفن يتماشون مع التطور الهائل الذي حدث في هذا المجال مثل منى ربيع، ومن أهم أعمالها «ملاكي إسكندرية»، وكذلك رباب عبداللطيف التي من أهم أعمالها «إسكندرية نيويورك»، وأيضا داليا ناصر، إلا أنه في المقابل هناك من يتقن برامج المونتاج ويجيد التعامل مع أجهزة الكمبيوتر لكنه ليس موهوبا وهو في هذه الحالة يصبح مجرد «سباك» تعلم الكمبيوتر، ولا يصلح أن يكون مونتيرا.

 

المونتير المبدع

وتختلف معها الناقدة ماجدة موريس قائلة: إن هناك أجهزة حديثة للمونتاج تسمى أجهزة المونتاج الرقمية، وهي بديلة لأجهزة مثل الموفيولا التي كانت تأخذ العمل لقطة بلقطة، ويقوم المونتير بالتقطيع اليدوي، وهذه الأجهزة أعطت فرصة لغير المبدعين في اقتحام المهنة، حيث إن من يتعلم تلك الوسائل الحديثة يعطي نتائج جيدة وتقنية صحيحة، وهذا ما جعل المونتير المبدع «يُقضَى» أو يصبح نادر الوجود. وأضافت أن المونتير المبدع لديه رؤية مهمة لإيقاع الفيلم، وكانت هناك نماذج لمونتيرين كبار وعظام كالمبدع أحمد متولي وكذلك المونتيرة نادية شكري حيث كانا يمتلكان إحساس العمل ولديهما عين الفنان في إبراز قدرات الأداء لدى الممثل في العمل السينمائي وكذلك القطع عند أفضل وأقوى المشاهد.