قليلة هي الأفلام التي يمكنها أن تسكن الذاكرة، ولعل «الأيرلندي» (The Irishman) واحد منها، فهو تحفة المخرج مارتن سكورسيزي، التي انتظرها الجميع بفارغ الصبر، وأطلت أخيراً على منصة نتفليكس، لتوافق التوقعات، رغم كونها طويلة، حيث تعدت 3 ساعات، في «الأيرلندي» لم ينتصر سكورسيزي للفن السينمائي وحسب، وإنما أيضاً إلى رفاقه القدامى، وعلى رأسهم روبرت دي نيرو، وال باتشينو، وجون بيشي، الذين التقوا جميعاً في إطار هذا العمل، ليقدموا دروساً في التمثيل والأداء والسرد والإخراج أيضاً.
في هذا العمل، يتيح لنا سكورسيزي، فرصة التوغل في عقل الأيرلندي فرانك شيران (روبرت دي نيرو)، وأن نعيش رحلة طويلة في دروب المافيا، التي فرضت سطوتها على المشهد العام في أمريكا، رحلة نطوف خلالها عبر 30 عاماً، يقدمها سكورسيزي بسرد متعرج، يتنقل فيه بين الحاضر والماضي، بطريقة لافته، ونعاين فيها علاقة المافيا برئيس اتحاد العمال في أمريكا جيمي هوفا، وكيف لعب «فرانك» دوراً رئيسياً في تلك العلاقة، ونطالع خلالها الكثير من الأحداث التي غيرت وجه أمريكا، حيث يعبر الفيلم موضوع الغزو الفاشل لكوبا، الذي أمر به الرئيس كنيدي، وكيف شارك فرانك دون أن يعرف في نقل الأسلحة للكوبيين الذين شاركوا في عملية «خليج الخنازير»، ثم العلاقة المتوترة بين هوفا والبيت الأبيض، والإشارة إلى أن المافيا دعمت انتخاب كنيدي، لكنه تنكر لها، وبدأ شقيقه روبرت كنيدي التحقيق مع عدد من رجالها، بل ومع جيمي هوفا نفسه الذي اتهم بالتلاعب في أموال الاتحاد، وكان يقرض المال من صندوق تقاعد الأعضاء للمافيا، مقابل الحصول على مكاسب شخصية والاستعانة بهم لتصفية خصومه.
في هذا العمل، يدعونا سكورسيزي، لأن نقف أمام صورة لأمريكا، تظهر فيها علامات الفساد والجريمة والعنف، والعلاقة بين السياسة والجريمة المنظمة، ولعل دخول مشهد اغتيال الرئيس كنيدي على الخط، شكل واحداً من الدلائل التي يسوقها سكورسيزي ليؤكد الصورة التي يقدمها لنا في الفيلم الذي يعتمد فيه على طبقات متنوعة ومتداخلة من السرد، والتي هي بالطبع سرد لفظي عن طريق التعليق الصوتي للأيرلندي، الذي يصاحبنا طوال الفيلم.
قد لا يبدو أن «الأيرلندي» يقدم شيئاً جديداً بالنسبة لسكورسيزي، وهو الذي سبق أن أثرى سينما الجريمة بأفلام «ثقيلة الوزن»، مثل «صحبة طيبة» و«تاكسي درايفر» و«كازينو»، إلا أن ميزة «الأيرلندي» تكمن في كونه الفيلم الأكثر عاطفة في مجموعة سكورسيزي، كما امتاز بكثرة تشعباته، وبتركيزه العالي على السرد والحوارات الطريفة الخارجة عن المألوف، كما هي عادة سكورسيزي، الذي يركز على النظرات وتعابير الوجه في لقطات قريبة جداً، كما في مشهد اتصال فرانك شيران بزوجه هوفا بعد اختفائه، والذي قدم فيه روبرت دي نيرو، واحداً من أروع مشاهد التمثيل، في حين نجد أن سكورسيزي لا يعمد إلى تصوير مشاهد القتل عن قرب، وإنما يقدمها في لقطات عامة، وهو ما نلاحظه في أكثر من عملية قتل واغتيال تجري في الفيلم، ليستعيض عنها بأسلوب آخر يصف فيه المشهد، عبر تقديم معلومة الاسم وتاريخ القتل وطريقته.
هوية
- اسم الفيلم: The Irishman
- إخراج: مارتن سكورسيزي
- بطولة: روبرت دي نيرو، وال باتشينو، وجون بيشي