هل تتحول الغربة في داخلنا إلى أشباح، لكي نطير في الهواء دون قيود أو قوانين، أم أنها أسطورة الخوف من أجل تحقيق البقاء واستمرارية الشك والسؤال نحو النور والظلام ومفارقات الحياة والقدر.
أسئلة كثيرة دون إجابات دون حلول أثارتها مسرحية "مساء الورد" لمسرح دبي الأهلي من اخراج وتأليف محمود أبو العباس، التي عرضت أول من أمس، على خشبة مسرح قصر الثقافة، وأسدلت في نهاياتها لمحة حيّة لانسيابية مشهد الوردة والندى المنسوج طوال ساعة من عرض المسرحية.
الجدلية في العمل ليست حول معطيات النص القريب من العبثية القصصية، بل اللغة الرفيعة في صياغتها والمتوترة في تعبيراتها على الخشبة، والتي احتاجت إلى مراقبة تفاعلية للصوت الداخلي للممثل.
الكل رأى من المسرحية شموعاً أشعلتها نبضات إخراجية حيّة، لنص مغرق في هواجس الفزع، والذي طرح منحى السلطة الأسرية والجوقة العشقية ومنظومة الاستبداد والقمع وإقصاء الآخر.
سلطة الخوف
الفضاءات المسرحية تقدم عادة أيديولوجيات فنية، وسياسة للغة البصرية تقحم المتابع في حالات من الأنس المخيف، وهذا ما صنعته بعض مشاهد العرض، الذي جُسد عبر أشكال الحوار في أكثر من موقع بين الشخصيات الحيّة على الخشبة، والشخصيات التي مثلت الظل وربما الشبح وربما الأرواح المعذبة وربما الحقيقية.
شكل المكان بيت قديم تارة وسجن تارة أخرى بمحركات سينوغرافيا ديناميكية. في الحدث هناك أب يجره الخوف نحو الهروب ومعه أبنائه الثلاثة - ابنه الأكبر وابنتاه الكبرى والصغرى - من خطر يداهمهم في الخارج ومن صراع داخلي يكاد يقتل الأب خوفاً على نفسه وعلى أبنائه، ليأتي مفهوم الخوف باعتباره مصدراً لتسلط الأب، ويظهر ذلك جلياً في الصراع الخارجي بينه وبين ابنه.
فرصة للبوح
شخصيات الظل مثلت الأشباح أو الأرواح المغمورة بفاجعة موتها، استيقظت بدخول العائلة للبيت المهجور، لتوحي للمتلقي بأسئلة هل كانت تلك الأرواح نائمة فعلاً، أم أنها مدسوسة في الهواء، وتنتظر فرصة للبوح وتحرير نفسها من قبضة الريح العابرة، بعد أن تم قتلها أو تعذيبها أو تدنيس إنسانيتها دون محكومية عادلة.
برزت جماليات العرض في هذا التلاقي بين العائلة ورجال خيال الظل. إلى جانب دور الابنة الصغرى مشكلة طوال وجودها على الخشبة شمعة أمل، فالكل خارج الخشبة يتتبع حراكها على المنصة، فقد تولت إشعال شموع ووضعها الخشبة بحجة أن معلمتها في المدرسة أكدت لها أن النور هو الممر إلى الحياة، وظلت تشعل تلك الشموع طوال العرض صانعة بانوراما التقاء ضوء الأمل بظلام الإحباط.
ماء الروح
لم يتوقف العرض عند منتصف تسلسل الأحداث، بل اتخذ من نفسه مراوغة جديرة بالذكر لمشهد الماء الذي تسكبه الطفلة الصغيرة على الأشباح لتغسل أرواحهم من غبار الجهل والمثاليات والثقافة البعيدة عن تحقيق الفائدة الصادقة منه، هنا تحديداً استحق المشهد التأمل صاحبه موسيقى تناسبت معه، وازاه أداء عال للطفلة وهي الممثلة ريم زهير.
أما الممثلة بدور فقد قدمت تألق المرأة في ظل عنفوان الخوف وتأجج مشاعر الألم تجاه فقدان الحبيب، لتعيد ذلك الشعور بمحادثة أحد الأشباح من يشبه رومانسية حبيبها وقصائده الشاعرية، طالبة منه الاستمرار بذلك وعدم الذهاب، ولكن الشبح يستمر في ممارسة طقوسه في الاختفاء والعودة.
الندوة التطبيقية
اعتبر النقاد والمتخصصون في مجال المسرح أن المخرج محمود أبو العباس، ممارس مسرحي يمتلك أدواته بشكل جيد، متحفظين على الصوت في أداء الممثلين، باعتبارات أن الصوت جمع بين القدرة والتقنية. وفي محور النص الذي جمع بين سلطة الأب والسلطة القمعية رأى المتابعون أنها تطرح قضايا عربية جوهرية، احتملت بين جنباتها الرتابة من خلال إبرازها لنقاط قوية في لحظات ونقاط ضعيفة في مكامن أخرى.
وحلل البعض أن الخلاف بين الأب والابن لم يكن مقنعاً على المستوى العام، منوهين إلى أهمية تركيز الممثلين أكثر لمضامين النص، بسبب ظهور إشكاليات في عملية التوصيل بين المتلقين والمسرح. ولفت الناقد صالح هويدي إلى أهمية الاهتمام باللغة الفصحى في المسرحية كونها كانت فائضة بحرية وتحتاج إلى المزيد من الاشتغال لإيصال دلالاتها التي غلب عليها الشعرية في مرات عديدة.
ومن جهتها قالت أمل حويجة إنها نقلة متقدمة لأداء الممثل الإماراتي في العمل، ولكن هناك ما تسبب بفقدانها للمتابعة بعد ذروة من الالتصاق بالعرض، وتحفظ بعض النقاد على فكرة أن يكون محمود أبو العباس مخرجاً ومؤلفاً في الوقت نفسه.
عظمة المسرح
وأشار المسرحي محمود أبو العباس حول ردود المداخلات أنه سعى عبر تأليف النص وتنفيذه على المسرح إلى استفزاز المتلقي، مبيناً أن سر عظمة المسرح تكمن في الإشكال بين الممارسة المسرحية والمتلقي، خاطب به الغربة التي بداخله وانهيار كبير لمنظومة القيم على المستوى المجتمعي العام وعلى مستوى الأسرة.
احتفاء
حفل تكريمي للمشاركين
أقامت اللجنة العليا المنظمة لأيام الشارقة المسرحية حفلاً تكريمياً في بيت النابودة بالشارقة احتفاءً بضيوف الأيام ومديري الفرق المسرحية وممثلي المؤسسات الإعلامية المحلية والعربية الذين يواكبون مهرجان أيام الشارقة المسرحية الثالثة والعشرون، إيماناً بدورهم الريادي في إنجاح منظومة المهرجان القائمة على استثمار ثقافة المسرح في إحداث لقاء نوعي يجمع بين ممارسي المسرح والنقاد والإعلاميين، لإحداث نقطة التقاء تفرز مبادرات نوعية تسهم في تحريك دفة المنجز المسرحي العربي نحو التنمية الثقافية المستدامة.
رأي
كريم رشيد: المهرجان منصة حوار
تحدث المخرج العراقي، المقيم في السويد، كريم رشيد، أحد المشاركين في أيام الشارقة المسرحية، قائلاً: إن أي تجمّع للمثقفين لا بد أن يقود إلى مكاسب كثيرة، لأننا نمارس المسرح من نقطة حوار، وهذا من شأنه أن يطوّر المعرفة والجمال.
أعتقد أنه جزء من مسؤوليتنا على طريق تطوير أدواتنا المسرحية، وهذا لا يتم إلا بمشاهدة عروض بعضنا البعض، وهو ما يتيحه لنا المهرجان المسرحي الحالي، لأنه يقدم فرصة كبيرة للتعبير المسرحي. إننا أمام مسؤولية الولوج إلى المستقبل وأدواته، التي هي المعرفة والجمال،
من برنامج اليوم
ملتقى أوائل المسرح (ورشة التفكير النقدي)
الزمن: 10:30 صباحاً
المكان: فندق الهوليداي إنترناشونال
المسرح العربي الجديد
الزمن:11:00 مساء
المكان: فندق الهوليداي إنترناشونال
عرض مسرحية (نهارات علوان)
الزمن: 7:00 مساء
المكان: قصر الثقافة
الطفولة والأمل
اتفق أغلب جمهور عرض مسرحية "مساء الورد" على الإتقان الحرفي للممثلة الشابة ريم زهير التي أدت دور الابنة الصغرى، متبنين براعتها بإعجاب، وقالت عن ذلك: "عندما تعرفت على الشخصية تعايشت معها بقوة، تخيلت لو أنني فقدت أمي وأنا طفلة أمام عيني، كيف سيكون شعوري حينها، وفعلياً الحالة تؤسس مونولوج يجمع بين الصدمة وفقدان شديدين يحتاجان إلى لغة صراع داخلية عالية، يمتزج معها ملامح البراءة وطغيان الطفولة، كان والداي يجلسان بين الجمهور ويشاهدانني، وعند انتهاء العرض جاءا وأفضيا إلي بشعورهما الذي غلبه الفخر ووازه إعجاب بقدرتي على إقناع المتلقي بحجم تلك المعاناة الإنسانية، وقدرتي على تمثيلها على الخشبة.