بعد ظهيرة التاسع من أغسطس العام 2008 جاءني صوت الكاتب والناشر رياض نجيب الريس متهدجاً من دمشق (حيث معرض دمشق للكتاب) يعلمني بوفاة محمود درويش، عدت إلى مقهى الفندق السياحي والصدمة تلفني، لم أكن أتوقع رحيله، رغم علمي بمرضه العضال، كان المقهى خالياً، بعدما غادره الأصدقاء في مثل هذا الوقت من النهار، بدت شوارع مدينة حلب خالية أيضاً.
استرجعت حوار الأمس في معرض الكتاب بدمشق حيث رياض الريس وجمال باروت وسعاد جروس وهالة محمد في جناح شركة رياض الريس للكتب، كان الحوار عن الحالة الصحية للشاعر محمود درويش، الذي يخضع لعملية القلب المفتوح في مستشفى «ميموريـال هيرمان» بمركز تكساس الطبي في هيوستن.
قال رياض الريس نقلاً عن أحمد شقيق محمود درويش، إن محمود أوصى بنزع أجهزة الإنعاش في حال لم تنجح العملية، لا يريد العيش بهذه الطريقة، كان حواراً مليئاً بالأسى وسط إقبال كبير على كتب محمود درويش، فقد كانت شركة «رياض الريس» تنشر كتبه بشكل أنيق وتوزعها حول العالم.
بعدها اتصلت بالأستاذ ظاعن شاهين رئيس تحرير «البيان» في دبي أعلمه بوفاة محمود درويش، وسط أخبار كانت تتناقلها الوكالات عن غيبوبة أو حالة حرجة، كان الخبر يقيناً من مصدر عائلي (شقيق الشاعر وحسب وصيته.. انزعوا أجهزة الإنعاش، لا أريد العيش مشلولاً).
القاهرة 2003
في منتصف مايو من العام 2003 جاء الشاعر محمود درويش إلى القاهرة لحضور احتفالية نظمها المجلس الأعلى للثقافة في مصر بمناسبة مرور 20 سنة على رحيل الشاعر أمل دنقل، حشد لها آنذاك الدكتور جابر عصفور جمهرة من النقاد والشعراء من داخل الوطن العربي وخارجه، بدا محمود درويش في تلك المناسبة أقل مما تقدمه الصورة النمطية التي عُرفت عنه، الشاعر المتباهي، طاووس وسط قاعة المرايا، كان أقل تواضعاً، محاطاً بعدد كبير من الشعراء والأصدقاء الذين يتلقون التعليقات بفخر، محمود درويش يجيد التعليق ويوزع الأدوار على من يحب، ولم تكن المرأة حاضرة إلا قليلاً في تلك الاحتفالية، يومها قال «مافيش شاعرات، المهرجانات العربية ذكورية».
ثم أردف قائلاً بصوت خفيض: «هيك أحسن». ربما كان يتلمس جمال المبدعات (!) ويقارنه بالمعجبات.
في قاعة بهو فندق هيلتون رمسيس قلت له: لقد حضرت أمسيتك في مدرج الجاحظ بكلية الآداب في حلب منتصف العام 1977، وأحتفظ بصورة لك وأنت تقرأ «سجل أنا عربي» كنت محلقاً وكنا نموج معك كأننا بحر من المشاعر الجياشة، قال «ما تكبرنيش كتير».
حلب 1977
قبل الأمسية بساعتين أو أكثر كنا قد ملأنا مدرج الجاحظ في كلية الآداب بجامعة حلب، وكانتشار النار في الهشيم تناقلنا قبل ليلة خبر أمسية سيحييها محمود درويش في الجامعة، بالنسبة لنا لم يكن مجرد شاعر مقاومة، كان نجماً بمقاييس السبعينيات، ثياب أنيقة، شعر مسرح بعناية، نظارة فرنسية أعطته مظهراً سينمائياً، أداء مسرحي ملون، صوت يعلو، يهمس، يصيب القلب مباشرة.
وكانت كتبه خبزاً شبابياً وخاصة الأعمال الكاملة التي دأبت دار «العودة» على طباعتها في مجلد أحمر قان، ويكفي أن تحمل كتاباً لمحمود درويش لتصبح مثقفاً يسارياً أو ليتم تصنيفك في خانة ما غالباً ما تفضلها الفتيات.
ضاق المدرج بالحاضرين ، كثير منهم يدخنون، لم تكن ثقافة منع التدخين قد انتشرت بعد، يومها صعد الدكتور عمر الدقاق عميد كلية الآداب في الجامعة المنصة طالباً منا التخفيف من الدخان، وأضاف قائلاً: شاعرنا مريض وعلينا مساعدته لنجاح هذه الأمسية، ووسط دوي من التصفيق صعد محمود درويش المنصة، احترمنا صحة الشاعر لم ندخن كثيراً، ران صمت عظيم قبلما يبدأ «سجل أنا عربي» فقط كان وميض الكاميرات يبهر ويكسر الصمت، كاميرات قليلها محترف، وكثيرها من تلك النوعية الرخيصة التي انتشرت بين هواة التصوير، حيث لم يفوت أصحابها الفرصة للوقوف قرب المنصة أو الصعود إليها للالتصاق بالشاعر والتقاط صورة معه.
دبي 2004
أمضى محمود درويش أربعة أيام في فندق البستان روتانا بدبي، حيث جاءها مكرماً من قبل جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، حين فاز بجائزة الإنجاز الثقافي والعلمي إلى جانب الشاعر أدونيس بقيمة مادية ومعنوية كاملة، عبر الهاتف سأله عبد الإله عبد القادر المدير التنفيذي لمؤسسة سلطان بن علي العويس: هل تقبل منحك الجائزة إلى جانب أدونيس؟ أجاب: أدونيس شاعر كبير ويشرفني الفوز بجائزة العويس إلى جانبه.
في الأيام الأربعة تلك طارده فيها الصحفيون صباح مساء دون جدوى، رفض أي مقابلة مع أي وسيلة إعلام، تجنب الظهور العلني في ردهات الفندق، سوى تلك الأمسية التي أحياها في قاعة الراشدية العملاقة، التي حضرها أكثر من ألفي شخص جاؤوا من مختلف أنحاء الإمارات، لم يكن يومها شاعراً مقاوماً كما عهدته الذاكرة، كان أكثر عمقاً وجدانياً، شاعراً إنسانياً أعطى للمفردة الحديثة شرعية الانتشار الواسع في شعرنا المعاصر.
في طريق العودة من غداء في فندق كمبينسكي بعجمان سألته عن سر عدم إجراء مقابلات، قال «ما بحبش الأسئلة»، قلت ما رأيك بعقد مؤتمر صحافي في مؤسسة العويس، أطرق قليلاً ثم قال بجدية مطلقة، «بلاش منو، رح يسألوا عن السودان وعن العراق، وغيرها من القضايا السياسية، يمكن ماتعجبهمش إجاباتي، بلاش مؤتمر».
شاعر الوطن
محمود درويش «13 مارس 1941 - 9 أغسطس 2008»، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن. يعتبر درويش أحد أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه. في شعر درويش يمتزج الحب بالوطن بالحبيبة الأنثى. قام بكتابة وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني التي تم إعلانها في الجزائر.