تعيش دبي في هذه الأيام وحتى الشهر المقبل، تظاهرة فنية ثقافية نوعية، تحت مظلة «موسم دبي الفني» الذي تنظمه هيئة دبي للثقافة والفنون، تحت رعاية سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس هيئة دبي للثقافة والفنون «دبي للثقافة»، وتكمن خصوصية هذه التظاهرة، في إيقاع تفاعلها اليومي مع كافة فئات المجتمع وثقافاته. ويتجلى هذا التفاعل الحيوي في الدورة الرابعة من معرض «سكة الفني» المقام في منطقة حي الفهيدي التاريخية، والذي يستمر حتى 24 مارس الجاري.
إبداعات الفنانين
وما إن تبدأ الشمس بالغروب، حتى يتوافد الزوار، وفي مقدمهم العائلات، إلى معرض «سكه الفني»، ليبدؤوا جولاتهم بين الأزقة الضيقة، ويكتشفوا ما يخبئه كل بيت من بيوت الحي من إبداعات لفنانين هواة من المقيمين في الإمارات ومن أهل الخليج. والشيق أن معظم الأعمال المعروضة التي تفوق براعة فنانيها المحترفين، قريبة من نفس المشاهد، إما لجماليات العمل الفنية، من حيث التكوين والألوان، وأحياناً التصميم، أو فكرة العمل بحد ذاتها، التي تحمل رؤية نقدية عفوية للعديد من محاور الحياة المعاصرة بأبعاد إنسانية وفلسفية أخرى.
ويستوقف الزائر خلال جولته التي تتطلب أكثر من يوم لمشاهدة جميع الأعمال، باحات الاستراحة المتعددة، التي تعتبر بمثابة محطة للاسترخاء، والاستماع إلى الغناء والموسيقى، في أجواء بعيدة عن التكلف، تعيد للإنسان إحساسه بالدفء والألفة مع الآخرين.
تفاعل الثقافات
ويستمع في الساحة الرئيسة التي تقوده إليها عبر الحواري، أنغام الكمان أو القانون أو البيانو أو صوت عذب، إلى مقطوعات فنية وعروض أداء، وكم تتملكه الدهشة، حينما تسبقه خطاه إلى الساحة، بهدف الاستسلام لأنغام القانون والكمان الشرقية، ليفاجأ عند وصوله، أن أفراد الفرقة الذين يعزفون بحرفية عالية، هم من جنسية آسيوية. وسرعان ما يبتسم، فذلك مرآة لمجتمع دبي وتفاعل الثقافات برؤية حضارية، ترتقي بأفق مداركه وانفتاحه لاكتساب المزيد من الحضارات الأخرى.
وإن كانت البيوت أسراراً، فإن قلوب فنانيها كريمة وسخية بحوارها، من الترحيب بالزوار، إلى الحديث معهم حول أعمالهم وتجربتهم. وأسوة بكل عام، يبدأ الزائر جولته من الزقاق الذي يضم محال البخور والبهارات، التي تفصله عن العالم الخارجي وصخبه.
دور الفنان
يطالع الزائر في البيت الأول في غرفة حمد رحمة الفلاسي، الفائز بالعديد من جوائز التصوير الفوتوغرافي في المنطقة، عدداً من الصور لعمال مياومين يحملون محفظتهم المتهالكة التي فيها أوراقهم الرسمية، ويضم الصندوق الزجاجي، بجانب جميع الصور، المحفظة التي في الصورة، وهي أكثر تداعياً في الواقع.
شكراً للفرسان
وحولت الشابة روضة الصايغ، الغرفة الخاصة بها في البيت نفسه، إلى ما يشبه المحراب، الذي يتداخل فيه الواقع بالصورة، بنقلها تفاصيل الصورة إلى المكان، مع صورتين مصغرتين، أما محور الصورة الفنية التي عالجتها روضة ببراعة، فهو الطفل الذي يرمق صورة والده بملابس عمله في الدفاع المدني بإعجاب، وتقول روضة: «اخترت هذه الفكرة، لأن والدي الإطفائي ليس بطلي وحدي، بل بطل المجتمع بأسره».
وما إن يدخل الغرفة الثالثة، ويطالع اللوحات الضخمة التي تتفوق على نفسها بالقيمة الفنية والمضمون، حتى تتسع رقعة الحزن في داخله، وهو يتأمل كل عمل من مجموعة «الحالمون» لمروان قاروط، التي يصور فيها وجع الارتحال والاغتراب.رحلة الزمن
ويشعر الزائر بعد حين بالتعب، ويقرر لدى وصوله إلى منعطف يكشف عن مقهى جديد الدخول وأخذ استراحة، خاصة وأن أجواء المقهى مستوحاة من زمن السبعينيات والثمانينيات، لتطالعه في البداية، الخضرة الوارفة، ويقترب أكثر فيقرأ اسم بقالية «السطوة 3000» ببساطة تصميمها.
وتكمن المفاجأة الكبرى، حينما يتعرف إلى أصحاب فكرة المقهى ومن يديرونه، وهما شابان من سويسرا، مايكل سيسلر خبير الطهي، والثاني يانيك بوفيت منتج أفلام فيديو. ويقولان إنهما استعادا من خلال مشاركتهما في «سكه للفنون»، حلم الشباب بذاك الزمن الذي يشكل جزءاً من هوية وثقافة المكان.
واقعية سحرية
ويتابع الزائر جولته في عوالم فن التصوير، ليتوقف أمام تجربتين لهما خصوصيتهما وأسلوبهما، وهما عائشة العبار، التي جذبت رباعية صورها الجدارية الضخمة، الجمهور، والتي تناولت فيها عبر معالجة طفيفة للصورة، لتقارب من أجواء الواقعية السحرية، فكرة الأقنعة ونسبية الحقيقة، واحتواء الإنسان على نوازع الخير والشر في داخله.
ويستعيد جماليات الصورة بالأبيض والأسود لدى مشاهدته، أعمال ناصر حجي في «دار ابن الهيثم»، والتي تعكس نضج تجربته، وخصوصية أسلوبه في معالجة فكرة أعماله، كما المسرح المفاهيمي، لتحمل كل صورة، العديد من الدلالات والتأويلات.
ويسافر الزائر عبر دخوله معرض المصورين الشابين يوسف عبيد الزعابي وعمر عبد الوهاب الكندي، إلى قرى ثقافة جديدة في كشمير. وتكمن جماليات أعمالهما في التقاط بساطة إيقاع الحياة.
وتتداخل مجدداً الأزقة التي تقود الزائر إلى باحة صغيرة مخصصة لعروض «سينما عقيل»، التي تقدم عروضاً سينمائية حية لسينما عقيل، وهي سينما مستقلة، تهدف إلى تقديم الأفلام المتميزة من حول العالم إلى الجمهور في دبي، وخلق وعي واهتمام بعالم السينما.
مسك الختام
يصل الزائر إلى نهاية جولته الأولى، التي استغرقت أكثر من ثلاث ساعات، لم يتمكن خلالها من زيارة أكثر من ثلث المعرض، ويتوقف أمام لوحة تدفعه جمالياتها إلى البحث عن الفنان دون أمل. ليعود ويستغرق في تفاصيل مشهد سهوب الطبيعة، الذي أبدع البريطاني ماثيو رايد في رسمها بأسلوب الانطباع، حيث لا تمل العين من تأملها، كذلك الأمر مع لوحته الثانية، التي تعكس تمكنه من أدواته، وبراعته في رسم أمواج البحر بواقعية كلاسيكية.
شغف
منصات للمواهب والإبداع والابتكار
قالت لبنى الشامسي مدير مشاريع في «موسم دبي الفني»، هيئة دبي للثقافة والفنون: «يسرنا أن نلمس الإقبال الواسع من قبل الجمهور لمتابعة الأنشطة الفنية المتنوعة، التي يشتمل عليها معرض سكة الفني، حيث يقدم الفنانون أعمالاً فنية لم تشاهد من قبل، ويحرص معرض «سكة الفني»، على توفير منصات للمواهبة الناشئة، لتقديم أعمالهم في إطار رؤية الهيئة الرامية إلى تعزيز مكانة دبي كمركز عالمي للإبداع والابتكار».
برنامج
ورش تغطي مختلف الأطياف الفنية
يتضمن برنامج المعرض، تقديم العديد من ورش العمل المتنوعة، التي تغطي جميع الأطياف الفنية، بما في ذلك الخط العربي والرسوم المتحركة والتصوير الفوتوغرافي والرسم على الزجاج الساخن والرسم الزيتي. وستقوم مؤسسات متعددة، تتخذ من دولة الإمارات مقراً لها، باستضافة هذه الورش، مثل «أنيميشن تشامبر» و«تشوتشوما استوديو» و«مرسم مطر» و«وبيت العمارة التراثي» و«بريسايس» و«الغرفة 5»، و«دار الخط» و«أبجد» و«جامعة نيويورك أبوظبي»، وتوفر هذه الأنشطة، فرصاً مثالية للراغبين في اكتشاف قدراتهم الإبداعية. كما سيتم أيضاً تنظيم مجموعة منتقاة من العروض الموسيقية هذا العام، والتي تتراوح بين الأنواع التقليدية والشعبية والجاز وموسيقى (الهيب هوب).