قادني هذا البحث إلى سفر شائق، حيث أقدم الأعمال الأدبية العربية وأجزلها، وهي «المعلّقات العشر»، لشعرائها العشرة الذين نالوا شهرة واسعة، لأكتشف أن جميع شعراء المعلّقات ولدوا في القرن السادس الميلادي، فمنهم من ولد وعاش في ذات القرن حتى نهاية عمره، ومنهم من امتد به العمر إلى بدايات القرن الذي يليه، مثل أعشى قيس، ولبيد بن ربيعة، وعنترة، والنابغة...

لكن أن يولد جميع أصحاب «المعلّقات العشرة» في قرن واحد وتخرج المعلقات كلها خلال ذلك القرن، فهو أمر يدعو للاهتمام، ليجعلنا نتساءل، لماذا أصابت هذه القامات أعراض الشعر الخالد في هذا القرن تحديداً، وهل نستطيع أن نطلق عليه «قرن المعلّقات»؟

أقدم آداب العرب

احتلت القصائد المعلّقة وأقدم الأعمال في الأدب العربي، مكانة مهمة في المجتمعات العربية، وكذلك أصحابها؛ لتركهم قصائد ظلّت في ذاكرة الإبداع والجمال طويلاً. وكما نرى، مرّت عليها 1500 سنة دون ذبول، إلا أن موضوعنا اليوم هو عن شعراء المعلّقات أنفسهم، السبعة أو العشرة.

فبعد تتبع أراضيهم وديارهم، وجدت أن جميعهم ولدوا وعاشوا في القرن السادس الميلادي لا قبله، مُلملمين وجدانياتهم وأفكارهم في مفردات عطِرة وجزِلة، مُنبتين زروعاً من خيال انحدرت من خلف الأفق تم سقيها بعناية، لتبقى بين أيدينا حتى هذا اليوم. لكن، لو تمّ ربط تلك المعلّقات بالزمن والتاريخ المسجل للأحداث، فإن المعلّقات كلها كتبت في القرن السادس الميلادي لا قبله ولا بعده.

شاعر

ورغم أن الشعر بشكل عام يمر على الأشياء وضدّها، وكأنه في معركة، إلا أن الشعر الحقيقي يأتي دائماً منتصراً للحرية والمحبة والإنسان والجمال، وها نحن اليوم نذهب لنصاحب مشاعر هؤلاء الشعراء كيف كانت أحاسيسهم وقدراتهم وجنونهم وأنفتهم في زمن اعتبر الشاعر لا أديباً أو بليغاً فقط، بل مؤرخاً وكاهناً وداعياً وإعلامياً في جزيرة العرب، حيث تنوّع الثقافات من تعدّد اللهجات والأديان والمذاهب، وغنى التراث مع فيض «الميثولوجيات».

إضافةً إلى تمكّن رجال العرب من الفروسية وسبق الشجاعة؛ ليأتي اللغوي الشاعر مُتشرّباً كل فنونه، وهو يقول الشعر الفصيح، فيمثل بثقافته وسعة مكانته أهمية كبيرة لقبيلته أو مملكته ليصبح صاحب منزلة، فهو من جهة، صوت أهله وأرضه، ومن جهة أخرى، يفتعل المعارك الوهمية في الشعر بدل الحروب الحقيقية؛ لتبيان العزّة والمكانة، مجتمعين كل عام في «سوق عكاظ» القريب من مكة، حيث يقوم كل أديب هناك بإلقاء قصيدته، في مهرجان شعري سنوي، لتتجلى أروع القصائد بعمقها ونبوغها، فكان القرن السادس الميلادي قرن الشعر الذهبي بامتياز.

إيقاع متفرّد

وعلى هذا، فإن جُلّ ما يصيبه هؤلاء المجتهدون من الشعراء وقع في خانة الموهبة الكبرى والحرية والتنوع والجمال، لتخرج الأشعار ذات إيقاع متفرّد لا بطول القصيدة فقط، بل بكل ما فيها من ثروة بصرية وصورية وبنيوية غير محدودة، ومشاهد ليضعها «أصحاب المعلّقات» أقدم علماء علم اللغة والخيال وفي عصرٍ كلاسيكي قديم، وفي شبه جزيرة العرب بحدودها الكبرى وبتنوّعها الشديد، من خلال ما كانت تحمل أرضها من ثقافات متعدّدة.

المعلّقات السبع

منذ المعلقة الأولى لامرئ القيس الكندي الذي ولد في بداية القرن السادس الميلادي في نجد، ومنذ أن زودنا بمعلقته الشهيرة «قِفا نبكِي»، والتي تعدّى عدد أبياتها السبعين بيتاً، وقف فيها على الأطلال والليل والغزل ورحلات الصيد وعشق ابنة عمه «فاطمة» التي لم يتزوجها وهي مذكورة في معلّقته.. لتُعدّ من أجمل وأول الآداب التي قيلت في هذا القرن.

وكذلك معلّقة طُرفة بن العبد البحريني، الذي قُتل شاباً، والذي عاش في منتصف القرن السادس الميلادي، ومعلقته التي يذهب بعض النقّاد إلى القول إنها الأجمل، بوصفها قصيدة إنسانية في الوصف والشرح، ولما في قلب الشاعر من جوى وكآبة، وكذلك للفوائد التاريخية الثرية والمهمة التي يتطرق لها في ذلك القرن البعيد.

وكذلك الشاعر الحارث بن حلزة اليشكري، الذي ينتمي في سلالته إلى قبيلة بكر بن وائل في شمالي جزيرة العرب، وابن هذا القرن، والذي توفي عام 580م، فعاش الفخر في شعره، لكون الفخر ثقافة في زمنه تعزّز مكانته.

ويعني حسب شرح ابن الزوزني، أن أسماء آذنتنا وأعلمتنا بمفارقتها إيانا، أي بعزمها على فراقنا، ورُبّ ثاوٍ تعني وربما طالت إقامتها التي لم أملّها، لكن الأساس في قول هذه المعلّقة هو الدفاع عن قبيلته.

وإن أتينا إلى عبقري الشعر ومن المتقدمين بين الشعراء الثلاثة زهير بن أبي سلمى، المولود في الحاجر (جنوبي الرياض)، لأسرة معظم أفرادها شعراء سكنوا البادية بين الحجاز ونجد، وقرب المدينة المنورة، أي أنه ينتمي إلى أقوى قبائل العرب، وهي قبيلة غطفان، ليُعدّ الشاعر ابن القرن السادس الميلادي بامتياز، وتعرف قصائده بـ«الحوليات»، حيث كان يكتب القصيدة في عام كامل بسبب كثرة تنقيحها وعرضها وتنظيمها، مروراً بالشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي، وبنو تغلب من شمالي الجزيرة العربية، ومعلّقته أشبه بالملحمة؛ لكونها تتصف بمشاعر الحماسة والعزّة، وضعها بهدف حلّه للخلاف الكبير بين قبيلتي بكر وتغلب، كما ترجع أهمية المعلّقة إلى أنها تعود إلى زمنين منفصلين، بين الفخر بقومه والوعيد للآخر.

وإن أتينا لعنترة بن شداد، المنتمي من جهة والده إلى بني كِندة، فقد أنتج قصيدة جميلة في شبابه، أصبحت معلّقته من أهم المعلّقات بين العرب، حيث اشتهر بها لأن بها من الحماسة قسمين، الأحداث والهجوم، لكنه مرّ خلالهما بجميع أبواب الشجاعة والقوة والبطش.

وأخيراً، المعلّقة السابعة للبيد بن ربيعة، والذي ينتمي إلى «هوازن»، فقد وُلد في القرن السادس الميلادي ولحق بالإسلام فكان من «المؤلّفة قلوبهم»، وهو الوحيد الذي أسلم من أصحاب المعلّقات، وعاش فترة الخلفاء المسلمين، حتى توفي عام 661م، أي أنه عمّر طويلاً، لكنه لم يقل شعراً بعد الإسلام وبقيت معلّقته من مقولات القرن السادس الميلادي مشهورة حتى يومنا هذا، ويتحدث في معلّقته كيف عفت الديار الأحباب وانمحت منازلهم، فتوحّش المكان ليرتحلوا، مكملاً أبياته التي عدّها البعض من أجمل المعلّقات.

الثلاثة الأُخر

لأن بعض النقاد رأى في 3 قصائد أخرى جودة عالية، اعتبروا المعلقات عشراً لا سبعاً، وهؤلاء أيضاً ينتمون إلى القرن السادس الميلادي، منهم الشهير بـ«الأعشى» أو «أعشى قيس»، واسمه الحقيقي ميمون بن قيس بن جندل، من «منفوحة» باليمامة وهي مدينة الرياض حالياً. كان فقيراً جداً، ولد عام 570م، ينتمي إلى بكر بن وائل وهم يصلون في نسبهم إلى عدنان، حيث يقول في مطلع معلّقته:

ودّع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

وكذلك الشاعر عبيد بن الأبرص المولود في القرن السادس الميلادي، وكان فقيراً جداً، توفي في آخر القرن السادس الميلادي عام 598م، وهو من بني أسد، بقيت معلّقته تلقى الاهتمام، لما فيها من بلاغة، إذ يقول في مطلعها:

أفقرَ من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب

وأخيراً، الشاعر الذبياني والملقب بـ«النابغة»؛ لنبوغه في الشعر، واسمه الحقيقي زياد بن معاوية، فهو من «كِنانة» وهي بين يثرب ووادي القرى في الحجاز، ويقول في مطلع معلّقته:

يا دار مية بالعلياء فالسند أقْوَتْ وطالَ عليها سالفَ الأبدِ

ولد في القرن السادس الميلادي وبالتحديد عام 535م وتوفي بداية القرن التالي عام 604م.

وإذ يهمني أن أشير إلى أن كل قرن من القرون تقع فيه الأحداث الكبرى، وتزوره العباقرة لتصنع فكراً جديداً، لكن ما جرى مع شعراء المعلّقات الذين ينتمون إلى أمكنة متفرقة داخل جزيرة العرب، أنهم جميعاً ينتمون إلى هذا القرن الذي يُعد ذهبياً في الأدب، تحديداً من خلال «معلّقاتهم العشر»، حتى إننا نستطيع الآن أن نطلق عليه قرن «المعلّقات العشر».

تصنيف المعلّقات ومكانة أصحابها

الأشعار موهبة حرّة، لا تعرف أميراً أو فقيراً، تحتوي الموهوب فقط وأيّاً يكن في أصله أو صفاته، ورغم ظهور هؤلاء السبعة أو العشرة. ومنذ سليل البيت الملكي لقبيلة كِندة المغامر امرؤ القيس، إلى الشاعر البخيل أو الفقير أو المظلوم، بقي تصنيف المعلّقات حتى يومنا هذا صعباً بسبب جمالها وعمقها.

قال شعراء جزيرة العرب في القرن السادس الميلادي ومختلف أحوالهم، شعراً نادراً، وقصائد تعدّ سلسلة طويلة سميت بالمعلّقات، كانت أشبه برسائل شعرية، وتوصيلاً لآراء اجتماعية وسياسية وجمالية، تعني من خلالها فخراً أو وصفاً أو مدحاً.

ومهما كان، بقي الشاعر في هذا القرن صاحب مزايا لا حصر لها؛ لقوة مكانة الشعر، لتخصص له الأمكنة والمنزلة وينظمون لهم مهرجاناً سنوياً في أسواق عدّة، مثل «سوق عكاظ» في شهر ذي القعدة من كل عام، وأمام حشد كبير يتقدمه ملوك وعِلية القوم، يأتون لسماع الشعر من أصحابه الذين امتازوا عن غيرهم بهذه الموهبة اللغوية الكبرى، حتى خلق شعوراً مع الوقت بأن معلّقاتهم أشبه بملحمات أسطورية.

أما في ما يُحكى عن تعليق المعلّقات على أستار الكعبة، أو أنها كتبت بماء الذهب، فلا دليل على ذلك ولا مصدر له، وإنما هي أقرب للأقوال المتداولة، ولطالما راودنا السؤال عن الشعر والشعراء قبل هذا القرن، وعن وضعه ومكانته وما قيل عنه، أي في القرن الخامس الميلادي وكذلك الرابع والثالث الميلادي في جزيرة العرب، فإن المؤرخين آنذاك اهتموا أكثر بتسجيل الممالك العربية القائمة من خلال مملكة «الحيرة» و«نبط» و«الحجر» و«كِندة»، وذكر ملوكهم وأفعالهم، أكثر من ذكرهم لعلماء اللغة والشعراء، وكما يبدو لنا أنه بعد استقرار الممالك والقبائل نوعاً ما، بدأ قول الأدب، لتبدأ المنافسة الأدبية الرفيعة بين ممالك جزيرة العرب ومنذ ذلك الوقت، أي القرن السادس الميلادي.

538

في هذا العام سار الأمير الشاعر امرؤ القيس إلى القسطنطينية برسالة من الحارث الغسّاني للقيصر «يوستينيانوس» الأول، لتوطيد نفوذ الروم على تخوم بلاد العرب في وجه الفرس.

27

قُتل الشاعر طرفة بن العبد وهو في الـ27 من عمره، أثناء عودته من اليمن بغرض التجارة، من قِبَل الملك عمرو بن هند الذي لم يكنّ له أي مودة كما كان مع أبيه.

103

عدد أبيات معلقة عمرو بن كلثوم، وهي الأطول من بين المعلّقات العشر، إضافةً إلى أن شعره امتاز بالجودة ومتانة التركيب. وتدور المعلّقة حول الحماسة والفخر بالعشيرة.

 

امرؤ القيس (501 - 540م)

مطلع معلّقته:

قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل

بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ

زهير بن أبي سلمى(520 - 609م)

مطلع معلّقته:

أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ

بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ

عنترة بن شداد(525 - 608م)

مطلع معلّقته:

هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم

أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ

عمرو بن كلثوم(526 - 584م)

مطلع معلّقته:

أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا

وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا

لبيد بن ربيعة(560 - 661م)

مطلع معلّقته:

ِعَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا

بِمِنَىً تَأَبَّـدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَا

الحارث بن حلزة(000 - 580م)

مطلع معلقته:

آذَنَتْنَا بِبَينِهَا أَسْماءُ

رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ

طرفة بن العبد(543 - 569م)

مطلع معلّقته:

لِخَولة َ أطْلالٌ بِبُرقَة ِ ثَهمَدِ

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ