بدأ محمد بن عبدالله بن محمد اللواتي الطنجي، المعروف بـ«ابن بَـطُّوطَة»، المولود عام 703هـ، الموافق لـ24 فبراير 1304م بطنجة، والمتوفّى عام 779هـ الموافق لعام 1377م، رحلته في يوم 14 يونيـو من عام 1325م، الموافق لعام 725هـ، إذ خرج مــن مدينته طنجة وهو فــي ربيعـه الحادي والعشرين قاصداً الديار المقدّسة الحجازية لتأدية مناســك الحجّ في مكة المكرّمة، ثمّ زيارة المسجد النّبوي في المدنية المنوّرة.
وكانت تلك بداية لهذه الرحلة الشهيرة التي عُرفت بـ«تُحفة النُّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وقد تُرجمت رحلة ابن بطّوطة حتى الآن إلـى نحو 50 لغة. وكان من ضمن ما دوّنه هذا الرحّالة في كتابه مشاهداته في منطقة الخليج العربي.
وفي هذه الحلقة سوف نتطرّق إلى حديث ابن بطّوطة عن منطقة الخليج، مع ملاحظة أنّ اختلاف عادات ابن بطّوطة المغربيّ الأصل عن عادات أهل المشرق بصفة عامّة، وأهل الخليج بصفة خاصّة، دفعتْه إلى وصْف كلّ ما شاهده من حياة وظواهر اجتماعيّة واقتصاديّة في المنطقة وصفاً دقيقاً، ما جعل تلك المشاهدات والأوصاف توثيقاً أصيلاً للحياة بالمنطقة في العصور الوسطى.
وقد قام بزيارة منطقة الخليج العربي مرّتين، الأولى بين عامَي 730 و731 هــ (1330 و1331م)، وهي التي زار خلالها معظم مدن وموانئ الخليج العربي بدءاً من ظفار إلى البحرين، ومنها اتّجه إلى اليمامة ثمّ إلى مكة لأداء فريضة الحجّ، والزيارة الثانية كانت عام 748هـ (1348م)، واقتصرت فقط على المرور بعدّة موانئ مطلّة على بحر عُمان وبحر العرب.
مدن وموانئ
يتركّز حديثنا حول المدن والموانئ والمرافئ والجزر، حيث زار الرحّالة أوّلاً مدينة صور ثمّ قلهات ثمّ نزوى التي وصلها برّاً، وذكر أنّها كانت آنذاك قاعدة الحكم، ومقرّ السلطة، وذكر أنّها تقع على سفح جبل تحفّ به البساتين والأنهار، ووصف مساجدها بالحُسن والكثرة.
وقبل أن يغادر ابن بطّوطة المنطقة، أشار إلى بعض المدن والقرى التي مرّ بها، وذكر منها قريّات وشبا، وربما هي السِّيْب الحاليّة، ودبا وكلبا وخورفكّان وصحار، وذكر أنّها كلّها ذات حدائق وأشجار نخل، ووصفها بالحُسن وبأنّها ذات أنهار، يعني الأفلاج. ثمّ بلغ هرمز التي وصلت في زمنه إلى أقصى درجات القوّة والاتّساع بعد أن استطاعتْ فرض سلطانها على قيس. وأشار إلى الانقسام السياسي في هرمز بين السلطان قطب الدين وابن أخيه نظام الدّين.
وبعدها أبحر إلى جزيرة قيس، وأفاض الرحّالة في مدح جزيرة قيس، وامتدح أسواقها ثمّ مرّ بسيراف ثم البحرين التي وصلها من سيراف، وذكر أنّها مدينة كبيرة، حسنة، ذات بساتين وأشجار وأنهار، وماؤها قريب، يُحفر له بالأيادي، وبها حدائق النخيل والرمّان والأترج، ويزرع بها القطن. ثم اتّجه إلى القطيف، وقال: «هي مدينة كبيرة ذات نخل كثير، يسكنها طوائف من العرب»، ومنها غادر إلى الأحساء أو هجر، وأشار إلى كثرة نخيلها.
وصف الأطعمة
أورد ابن بطّوطة اسم سفينة بعينها، وهي سفينة «السنبوك» التي ركبها من الأُبُلّة أوائل ربيع الثاني 727 هـ (أوائل مارس 1327م)، وقد وصف الحياة داخل المراكب التي سافر فيها، وقدّم فكرة عن حياة أهل الخليج العربي وهم بالبحر، وأوّل إشاراته هو ما يعتمد عليه أهل المركب من غذاء، حيث كانوا يعيشون على السمك الذي يصطادونه من البحر، وكان اسمه «شيرماهي»، وهي لفظة فارسيّة تعني أسد السمك، وكانوا يقطّعونه ويشوونه ثمّ يأكلونه مع التمر، ومع أنّ ابن بطّوطة لم يستسغ هذه الأكلة إلا أنّه اضطرّ لتناولها معهم، وذكر طبخ الذرة من غير طحن، وصبّ «السيلان» عليها، وهو «الدبس»، وهو لأول مرّة يرى هذه الأكلة أيضاً.
كما أشار إلى اعتماد أهل المركب على أكل الطيور الكثيرة الموجودة في مختلف الجزر المنتشرة بالخليج العربي، وعلى بيضها كذلك، ولفت إلى تساوي جميع مَن في المركب سواء في الأكل أو في المهام، وذكر متاعب الأسفار والأخطار والعواصف، فقد سافر برّاً من صور إلى قلهات رغبة منه في استكشاف البلاد، واستأجر دليلاً يرشده إلى قلهات، وذكر أنّ هذا الدليل حاول الغدر به، ولهذا ظلّ ساهراً طوال الليل، ووصف الطريق من صور إلى قلهات بأنّها موحشة، وصحراء مجدبة، لا زرع فيها ولا ماء، وذكر مخاطر اللصوص وقطّاع الطرق، وأشار إلى تمتّع البدو الفرسان بالشجاعة والكرم والشهامة.
الوضع السياسي
خضعت عُمان زمن الرحّالة لحكم السلطان أبي محمد بن نبهان، وهو عربيّ أزديّ، كان متفتّحاً، لا يُمنع عنه أحد، ولا يَمنع حاجبٌ أحداً عن بابه، وقد أكرمه هذا السلطان، وكان في زمن ابن بطّوطة صراع عنيف بين هرمز وقيس، الذي اشتدّ منذ عام 730 هـ، وكانت له آثار سيّئة في النّشاط التجاري، خاصّةً بعد أن استطاعتْ هرمز تحقيق النّصر على قيس، وذكر تواضع ملك هرمز، واختلاطه بالأهالي.
الوضع الدّيني والمذهبي
ويستعرض ابن بطوطة من خلال مشاهداته ما كان منتشراً من المذاهب في عدد من المناطق، كمدينة قلهات التي كانت على المذهب الإباضي، كما ذكر أنّ أهالي القطيف كانوا على المذهب الجعفري.
الوصف الجغرافيّ والبيئيّ
أشار الرحالة الكبير إلى قلّة الماء في هرمز، واعتماد الهرامزة على ماء المطر الذي يتجمّع في عيون وصهاريج، وهي على بُعد من المدينة، وكانوا يحملون الماء من تلك الصهاريج والعيون في القِرب على ظهورهم إلى حيث المراكب التي توصلهم إلى المدينة. وألمح إلى أنّ مناخ البحرين شديد الحرارة، وأنّها بلد كثيرة الرمال، وربما غلب الرمل على بعض منازلها.
وأشار إلى الطريق البرّيّ بين البحرين وعمان، حيث زحفت عليه الرمال، ولم يعد في مقدور التجّار عبوره. وأشار إلى جبلين عظيمين بالقرب من البحرين، هما كسير، وهو في الغرب، والآخر عوير، وهو في الشرق، وهذا خطأ في التحديد، إذ إنّ هذين الجبلين عند مدخل مضيق هرمز، في شبه جزيرة مسندم.
الوضع القبليّ
ذكر قبيلة الأزد في عُمان، وأنّ أهل الأحساء كانوا عرباً، وأكثرهم من قبيلة عبد القيس.
الحالة الاقتصاديّة
وفي معرض حديثه عن الوضع الاقتصادي بالمنطقة، أشار ابن بطوطة إلى اعتماد أهل قلهات في اقتصادهم على التجارة، لوقوع البلدة على ساحل البحر. وأهم السلع التي كانوا يجلبونها كانت الأرز الذي يُجلب من الهند، وعليه الاعتماد الأول في الغذاء، وذكر نظافة الأسواق وحُسنها، وتحدّث عن قرية «طيبي» والصحيح «طيوي» بالقرب من قلهات، إذ كانت الزراعة هي السمة المميّزة لها، بها بساتين وأشجار، وكانت تمدّ قلهات وعُمان وهرمز بالفواكه خاصّةً الموز.
ووصف عُمان بأنّها كانت ذات ثراء اقتصاديّ، وقد اعتمد في زمنه على ما تنتجه الأراضي العُمانية من خيرات ومنتجات زراعيّة، وهي خصبة ذات أنهار وأشجار وبساتين وحدائق ونخل وفاكهة، ولكنّه لم يشر إلى قيام أيّ دور لعُمان في الميدان التجاري في تلك الفترة، على الرغم من تاريخ عُمان الملاحي والتجاري مع الهند وشرق آسيا وشرق أفريقيا، ويبدو أنّ هذا النّشاط توقّف في زمنه نتيجة التطوّرات السياسيّة التي شهدتْها عُمان، وما قامتْ به جزيرة قيس من شنّ هجماتها على السفن التجارية، ما أدّى إلى انقطاع التجارة عن عُمان.
وعلى الرغم من هذه الظروف فإنّ ذلك لم يعنِ تدهور الوضع في عُمان بل كانت مزدهرة، مع تنوّع مصادرها الاقتصاديّة ووفرة إنتاجها الزراعيّ، وهو تاريخ طويل لعُمان في هذا الميدان.
وأشار إلى النّشاط الاقتصادي لهرمز، وأسواقها الحافلة، وأنّها مرسى الهند، ومنها تُحمَل سلع الهند إلى العراق وفارس وخراسان. ومن هذه السلع الذهب والأحجار الكريمة واللآلئ والملابس الحريرية والعاج والبخور من الهند، والخيول من بلاد العرب، والملابس الموشّاة، وماء الورد من فارس، واللؤلؤ والفضّة والحديد والنحاس من البحرين، والقرفة، والفلفل والزعفران وخشب الصندل والسّكّر وجوز الهند والملابس القطنية والنحاس والزئبق من عدن.
سمات
تحدّث ابن بطوطة عن كثرة أكل الأسماك في قلهات، حيث يُشوَى على ورق الشجر، ويُجْعَل على الأرز، مع الاعتماد على المحاصيل الزراعية، خاصّة الحنطة والشّعير والتمر والأسماك، كما ذكر أن لأهل عُمان نجدة وشجاعة.
اللغات واللهجات
قال ابن بطوطة: إنّ لغة أهل قلهات ليست الفصحى، على الرغم من أنهم عرب، وربما يعود السرّ في ذلك إلى اشتغالهم بالتجارة واختلاطهم باللغات الأخرى. ولاحظ أنّهم يصِلون أيّ كلمة يقولونها بكلمة «لا»، مثل: تأكل لا، تمشي لا، واستخدام «لا» على هذه الصورة أي كمقطعٍ لاحقٍ، لا يدلّ على معنى، عقب كلّ كلمة، كما ذكر ابن بطّوطة، على الرغم من أن أمثلته لم تأتِ بغير الفعل المضارع، ونجد له أساساً في بعض اللهجات اليمنيّة، ففي همدان يقولون بدلاً من أحمد، ومحمد: «أحمد لا، ومحمد لا».
والمقطع «لا» في هذه الأمثلة لاحق للأسماء فقط. وفي لهجة خبان والشِّحر: يسبق المضارع «لا»، مثل: لا نعمل = نعمل. والمقطع «لا» في هذا غير دالّ على معنى.
وفي لهجة مهرة: «لا» حرف من حروف الربط للنفي، ويأتي بعد الكلمة أو في آخر الجملة. والمقطع «لا» في هذه اللهجة لاحق للكلام، دالّ على معنى. ويبدو أنّ اللهجة المحلّية تأثّرت بالاحتكاك مع أهل البحر من السواحل المجاورة بحكم الجوار.
الغوص واللؤلؤ
أشار ابن بطوطة عند حديثه عن سيراف وقيس إلى مهنة الغوص وعمليّة استخراج اللؤلؤ، وأماكن الغوص بين البحرين وسيراف. ووصف عمليّة الغوص نفسها بدقّة، ولكنه أخطأ في حديثه عن كيفية استخراج اللؤلؤ من الأصداف من أنّه يوجد في أجوافها قطع من اللحم تقطّع بحديدة فإذا لامست الهواء جمدت فصارت جوهراً.
وأشار إلى العلاقة بين الغوّاص والتاجر، واستدانة الغوّاصين من التجّار على أمل تسديد هذه الأموال لؤلؤاً يأخذ منه التجّار جزءاً كبيراً. كما كان السلطان يأخذ جزءاً من اللؤلؤ، وهو ما يعادل الخُمس، وهو يقصد سلطان هرمز.