الذين زاروه في منزله بمدينة الخُبَر، كما فعل المؤرخ محمد القشعمي، من أجل أن يكتب عنه في كتابه الجميل «أعلام في الظل» الصادر عن «دار الانتشار العربي ـ بيروت 2018»، وجدوه إنساناً متواضعاً يحبس نفسه في غرفة علوية من بيته، خصصها للآلات والأدوات التي يستخدمها في تحليلاته العلمية حول الأنواء والتغيرات المناخية ورصد الكواكب والنجوم وتتبع السحب واتجاهات الريح مثل: الإسطرلاب والتليسكوبات متعددة الأشكال وغيرها.

ذلكم هو ابن مدينة الخُبَر، دُرّة مدن المنطقة الشرقية في السعودية، عالم الفلك السعودي المرحوم جبر بن صالح بن جمعة الدوسري، الذي أخبرنا أنّ لوالدته فضلاً كبيراً عليه، لجهة غرامه وعشقه بكل ما يتعلق بالأفلاك والنجوم، كونها انشغلت بطريقة عفوية بظهور الأهلّة ومنازل القمر واتجاهات الرياح وأماكن سقوط المطر.

جبر ينتمي إلى الدواسر الذين هاجروا إلى شرق السعودية في عشرينات القرن الماضي بقيادة شيخهم أحمد الدوسري، ومعه الشيخان عيسى الدوسري، ومحمد الدوسري، قادمين من قرية البديع في البحرين.

هجرة

اختارت عائلة جبر السكن في الخُبَر، مثلما فعل دواسر كُثُر، وفيما مارس والده العمل بالصيد والغوص على اللؤلؤ، كانت والدته بالتعاون مع خالته تستغلان ما تعلمتاه في مدارس البحرين من دروس القرآن والكتابة والحساب في إدارة وتسيير شؤون كتـّاب من الكتاتيب التقليدية المختلطة من تلك المعروفة خليجياً باسم «المطوع» أو «المطوعة»، وذلك داخل بيتهما في «فريج» الدواسر على شاطئ البحر قريباً من الحي التجاري القديم بشارع الملك سعود.

في مثل هذه الأجواء البسيطة، والزمن المُفعَم بالحب والتواصل والتآزر.. وبين بحر إلى الشرق ينشر على الخُبَر نسائم هوائه المشبعة برطوبة مياه البحر الخانقة، وصحراء إلى الغرب ينفث عليها لهيبه وحبيبات رماله الناعمة، نشأ جبر وترعرع، وهو لا يدري ما سوف تخبئه له الأقدار من مفاجآت.

وقتها كان جبر يوزع أوقاته ما بين الدراسة البدائية في كتّاب والدته وخالته تارة، ومزاولة الألعاب الشعبية في الحواري مع الصبية من أقرانه تارة أخرى، وقراءة كتب الأطفال التي نقلته إلى قراءة السير الشعبية مثل سيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، وتغريبة بني هلال، وألف ليلة وليلة، ومجنون ليلى، ثم روايات الهلال، فمؤلفات مصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي تارة ثالثة، ومرافقة والده وأعمامه في ذهابهم إلى البحر للصيد والغطس بأدواتهم البدائية التقليدية المنهكة تارة رابعة، حيث تعلم جبر وهو في سن صغيرة السباحة والعوم، بل حاول ذات مرة بمساعدة والده أنْ يقوم بما يقوم به «الغيص» عادة من البقاء تحت الماء لأطول مدة ممكنة دون أسطوانات الأوكسجين التي لم تكن معروفة آنذاك، كما أخبرنا الأستاذ القشعمي في كتابه (ص 54)، فيما تقمص والده دور «السيب» أي الشخص الذي يسحب «الغيص» من قاع البحر بوساطة الحبال.

يعزو جبر تفتح ذهنه واكتسابه الثقافة العامة في سن مُبكّرة لخاله الذي كان يهتم باقتناء شتى أنواع الكتب العربية من المكتبات المحلية أو يحضرها من مكتبات البحرين.

أما تعرفه إلى أعلام الأدب والفكر الغربي ممن قرأ رواياتهم وأشعارهم ومؤلفاتهم من أمثال وليم شكسبير، وجون كيتس، وجورج بايرون، والشاعر الأميركي إدغار ألن بو، فيدين بها إلى مدارس «أرامكو» التي علمته الإنجليزية.

نبوغٌ ظاهر

شركة «أرامكو» كان لها مناهجها التعليمية الخاصة باللغة الإنجليزية المعادلة لشهادة الثانوية العامة، كما كانت تدرب السعوديين الملتحقين على بعض الأعمال ذات الصلة بأنشطة الشركة وأعمالها المكتبية والميدانية.

لقد كان اختيار جبر موفقاً بزّ به أقرانه. فبعد أعوام قليلة من الدراسة المكثفة، التي أظهر فيها الرجل اجتهاداً وجدية وتفوقاً استثنائياً، ابتعثته «أرامكو» إلى الولايات المتحدة للحصول على بكالوريوس المحاسبة من جامعة «يونغستاون» بولاية أوهايو، والتي تخرج فيها بدرجة امتياز عام 1973.

وخلال أعوام دراسته هذه فعل جبر ما يفعله المُبدعون الكِبار، حيث أشبع وصقل شغفه بعلم الفلك من خلال الانتساب والانتظام في معهد فلكي خاص بعد أن استدل عليه عن طريق أحد أساتذته في الجامعة.

حياة عملية

بعد عودته من رحلته الجامعية عينته شركة «أرامكو» في وظيفة الرئيس العام لمطبوعات الشركة بمقرها الرئيس في الظهران.

ونظراً لتفانيه واجتهاده في هذا المنصب، ناهيك عن حصوله على درجة 100% خلال الأعوام الأربعة التي درسها في جامعة «يونغستاون» - لدرجة أن اسمه سُجّل ضمن قائمة الطلبة المتميزين في جامعة «هوزهو» الأميركية -، ابتعثته «أرامكو» مجدداً إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة الماجستير، فنالها أيضاً بامتياز في تخصص إدارة الأعمال من جامعة «سياتل» بولاية واشنطن، بل حاز أيضاً جائزة أفضل طالب مبتعث طوال أعوام دراسته.

إضافةً إلى اهتمامه باللغات كهواية من الهوايات الجميلة التي تُحصّن المرء إذا ما كان من عُشّاق السفر، وتزيده علماً بثقافات وحضارات الأمم والأقوام، فإن جبر خاض تجربة الشعر.

ففي الصفحة 55 من كتاب القشعمي (مصدر سابق)، كتب عنه الأخير ما يلي: «وقد كتب قصائد كثيرة متعددة الأغراض في الحب والوصف والغزل، كما كتب الشعر الشعبي والزهيريات، وشارك في بعض الأمسيات الشعرية في الأندية الأدبية وغيرها، كما اهتم بالألحان وبعلم المقامات العربية والنغمات».

علماً أن قصته مع الشعر بدأت في سن السابعة حينما سمع ذات مرة إحدى العرضات فحاول تقليدها في البيت بصوت عال، الأمر الذي جعل والدته تنهره، لكنه في سن العاشرة نظّم قصيدة مقفاة سليمة الأوزان دفعها إلى أحد مدرسيه الذي صحح بعض أخطائها النحوية وشجعه على الاستمرار وتجنب الأخطاء من خلال قراءة كتب النحو، ففعل.

ويمكن أن نضيف في هذا السياق أنّ جبر تعلم وأجاد عزف آلتي العود والكمان، فأضاف إلى مواهبه ما لا يملكه سوى الشعراء والفنانين من ذوي الإحساس المرهف.

حب الفلك

وما بين هذا وذاك واصل جبر اهتمامه بالفلك، لاسيما الجانب التحليلي والرياضي منه، فبرع في هذا كثيراً بدليل حصوله على عضوية «الجمعية الفلكية الملكية» بكندا، وعضوية «جمعية أصدقاء الكواكب» بالولايات المتحدة.

كما اتجه للكتابة في الصحافة المحلية عبر زاوية أسبوعية في جريدة «اليوم» الصادرة من الدمام، وقد اختار لزاويته اسم «مشارق» انسجاماً مع تخصصه الفلكي وإشارة إلى شروق الأجرام السماوية.

حوارات

ومما قاله في حوار مطول مع صحيفة «الجزيرة» السعودية (5/‏‏‏‏‏‏‏7/‏‏‏‏‏‏‏1421 هـ): «اهتممت بعلم الفلك في سن مبكرة من حياتي.. ومن الظواهر الفلكية التي اهتممت بها أكثر من غيرها منازل القمر، ومواقع النجوم وأبعادها، والغروب والشروق، والخسوف والكسوف إلخ.

واستخدمت عمليات حسابية خاصة بذلك، إضافة إلى استخدام آلة قابلة للبرمجة. فأنا أحب علم الرياضيات منذ الصغر، ومعروف أن الجانب الحسابي لا غنى عنه للفلكيين ومن يبحثون في هذا المجال».

وأضاف قائلاً: «الأوائل من الناس كانت لديهم ثقافة فلكية أكبر بكثير مما هو موجود عند أمثالهم من الناس الحاليين.

كما أن من اهتماماتي المُبكّرة في علم الفلك استماعي لبرنامج خاص بالفلك كانت تبثه إذاعة البحرين منذ ما يقارب 30 عاماً وكان يقدمه رجل فارس سباق «جوكي» اسمه حسن الرويعي، وهو شاعر حسن الصوت، جيد الإلقاء، وكان يلقي من خلال برنامجه أشعاراً في الفلك لراشد الخلاوي (شاعر نجدي كبير عاش في أوائل القرن 11 الهجري) ولغيره من الشعراء الذين تحدثوا عن الفلك.

وحينما سأله الصحفي المحاور عن المذنبات، خاصة مذنب «هالي»، الذي أتى أبوتمام على ذكره في بيته:

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة

إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب

كان رد جبر (بتصرف): بالنسبة لبيت أبي تمام فإنه قاله ضمن قصيدة طويلة يمدح بها الخليفة المعتصم عندما فتح عمورية، وقد وافق وقت هذا الفتح ظهور مذنب «هالي» في تلك الفترة من الزمن، وكانت الأمم غير العربية، على العكس من العرب، يتشاءمون كثيراً بظهور المذنبات، لاعتقادهم أنه يعقب ظهورها حدوث كوارث وأوبئة وما شابه ذلك.

وهذه النزعة التشاؤمية مازالت موجودة حتى الآن في المجتمعات المتقدمة وكان آخرها قبل سنتين تقريباً، حين ظهر المذنب المعروف باسم «هيل بوب»، حيث ربطوا ظهوره بحدوث كوارث كونية، ما أدى ببعضهم إلى الانتحار.

وفي رده على سؤال حول اتهام الفلكيين بالتنجيم! فنّد جبر ذلك بقوله: «الفلك لا علاقة له بالتنجيم.. علم الفلك هو رصد ومراقبة وحساب وتفكر في خلق الله وفي الكون الفسيح الذي خلقه الله، وليس هناك فلكي واحد يعتقد بممارسات المنجمين الذين تقتصر صلتهم بعلم الفلك بمجموعات البروج التي تنزلها الشمس، وهذه البروج تشكيلات من النجوم تخيلها القدامى من الناس في أشكال وهيئات الحيوانات والأشجار نظراً لأن البيئة التي كانوا يعيشون فيها كانت بيئة زراعية خاصة في حضارة بلاد ما بين النهرين، ولذلك سموا البروج تبعاً لذلك من واقع بيئتهم «العقرب، الدلو، الأسد، الثور، الجدي إلخ».

وأخيراً، وهذا ما قد لا يعرفه الكثيرون باستثناء أبناء الخُبَر، أن الراحل هو الشقيق الأكبر للأستاذ عبدالله صالح جمعة، ثاني رؤساء شركة «أرامكو» السعودية، وكبير إدارييها التنفيذيين، والذي شغل المنصب من 1995 ولغاية 2008، بعد المهندس علي بن إبراهيم النعيمي.

غروب عبقري

انتقل جبر إلى جوار ربه في الأول من أكتوبر عام 2008، الذي صادف أول أيام عيد الفطر لسنة 1429 هـ. وكانت وفاته رحمه الله في نفس الحي الذي أبصر فيه النور عام 1938 الموافق لسنة 1357 هـ، وذلك في أعقاب إصابته بنوبة قلبية مفاجئة، فصُلي عليه عصر ذات اليوم بمسجد النور بالخُبَر، ووري جثمانه الطاهر هناك وسط حشد كبير من الحضور من مختلف أطياف المجتمع.

وهكذا رحل الرجل الذي ظل على مدى أكثر من 3 عقود مصدراً يـُعتمد عليه في الأخبار والتقارير الخاصة بالأحوال الجوية والظواهر الفلكية في الصحافة السعودية، حتى راح الناس يرددون في أحاديثهم إذا ما تجادلوا حول الطقس، عبارة «قال جبر الدوسري..».

مواهب

بعيداً عن تخصصه الأكاديمي في المحاسبة وإدارة الأعمال، وبعيداً عن تعلقه بالفلك كهواية مرتبطة بعشقه للرياضيات منذ سنواته المبكرة، نجد أن جبر الدوسري لم يكن قارئاً نهماً فحسب، بل كان صاحب مواهب كثيرة أخرى، مثله مثل النخب العلمية في الزمن القديم، من الذين طال شغفهم كل شيء حولهم، فخاضوا غمار كل المجالات بشجاعة.

فقد اهتم مثلاً باللغات، بدليل أنه بعدما فرغ من امتلاك ناصية لغته الأم (العربية)، وناصية لغة العصر والأعمال (الإنجليزية)، مدّ بصره نحو لغة الرومانسية والجمال، متمثلة في اللغة (الفارسية).. لغة عمر الخيام، وشمس الدين حافظ الشيرازي، وشاعر التصوّف سعدي الشيرازي.

ولسبب ما، أضاف إلى اللغات الثلاث آنفة الذكر، لغة «التقالوق»، وهي اللغة الرسمية المعتمدة في جمهورية الفلبين. ثم أضاف إليها (الإندونيسية)، التي لا يجيدها سوى القلة من العرب، إذا ما استثنينا سكان إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، وسلطنة بروناي، وتيمور الشرقية من ذوي الأصول العربية الحضرمية.

اكتشاف

التحق جبر الدوسري بأول مدرسة حكومية ابتدائية تمّ افتتاحها في الخُبَر (مدرسة «الخُبَر» الأولى). اكتشف الممتحنون أنهم أمام طفل مُتفوّق، فرفعوه للصف الثاني، ولاحقاً، نقلوه للصف الثالث، بعد أن اكتشفوا إجادته مواد الصف الثاني.

إذ حافظ جبر دائماً على الترتيب الأول، ولم يستطع أحد من أقرانه تجاوزه. أنهى المرحلة الابتدائية بتفوق كعادته، لكنه لم يجد فرصة لإكمال مراحل ما بعد الابتدائية، لأن الخـُبر لم تكن بها آنذاك مدارس متوسطة أو ثانوية.

كان البعض يذهب إلى الإحساء، لاستكمال تعليمه في مدارس «الهفوف» المتوسطة والثانوية، إلا أن جبر وجد في نفسه ميلاً لدراسة العلوم اللاسلكية، فانضم إلى إحدى مدارسها الحكومية.

وبمجرد أنْ علم بوجود مدارس صيفية تابعة لشركة «أرامكو»، لتدريس السعوديين اللغة الإنجليزية، هجر مدرسة اللاسلكي، والتحق بصفوف «أرامكو»، ليبدأ مشواراً حافلاً مع هذه الشركة العملاقة.